ترجمة: منير البعلبكي
كانت ليلة مظلمة من ليالي الخريف. وكان صاحب المصرف العجوز يذرع مكتبه جيئة وذهابا، مسترجعاً في ذهنه ذكرى تلك الحفلة التي أحياها في الخريف، لخمسة عشر عاما خلت. لقد شهدها نفر غير قليل من المثقفين البارعين، فكان من الطبيعي أن يتجاذبوا أطراف الأحاديث في أطرف الموضوعات. وكان في جملة ما تناقشوا فيه عقوبة الإعدام. والواقع أن كثرة الزائرين استنكروا هذه العقوبة، ذاهبين إلى أنها لا تليق بالعصر الذي نعيش فيه، وأنها عمل غير أخلاقي. ولقد رأى بعضهم ضرورة الاستعاضة عنها بالسجن مدى الحياة.
عندئذ اندفع المضيف إلى القول:
- إني لأخالفكم في ذلك. صحيح أنّي لم أجرب بنفسي أيا من العقوبتين، ولكن إذا كان لي أن أحكم على أساس البداهة فالذي أراه أن الإعدام أكثر أخلاقية وأكثر إنسانية من السِجن. إن الإعدام يميت المجرم للتو والساعة، في حين يميته السجن موتاً بطيئاً. أيهما أرحم: هذا الذي يقتلك في بضع ثوان، أم ذاك الذي يستل منك الحياة من غير ما انقطاع، طوال سنوات متعددات؟
وعلّق أحد الضيوف على هذا الكلام بقوله:
- كلتا العقوبتين سواء في صفتها غير الأخلاقية، لأن الغاية منهما واحدة، في النهاية وهي انتزاع الحياة. إن الدولة ليست هي الله. وهي لا تملك حق انتزاع مالا تستطيع إعادته، إذا رغبت في ذلك.
وكان في الحاضرين محام شاب لايعدو الخامسة والعشرين. فلما سُئل رأيه في القضية قال:
- إن الإعدام والسجن مدى الحياة سيان من حيث صفتهما غير الأخلاقية، ولكنني لو خيرت بينهما لاخترت العقوبة الثانية من غير شك. فلأن يعيش المرء على أية حال خير له من أن لا يعيش على الإطلاق.
وهنا احتدمت المناقشة. فما كان من صاحب المصرف إلا أن أخذته سَورة الغضب فضرب المنضدة بجمع يده وإلتفت إلى المحامي الشاب صارخاً:
- كذب وبهتان! إنك لن تستطيع أن تمكث في السجن خمس سنوات لا خمس عشرة سنة، وإني لعلى استعداد للرهان على مليوني روبل...
فأجاب المحامي:
- إذا كنت جاداً فيما تقول فأنا على استعداد لأن أراهنك على أن أقضي في السجن خمس عشرة سنة لا خمساً فحسب!
وصرخ صاحب المصرف:
- خمس عشرة سنة! حسناً! أيها القوم: إني أقدّم مليوني روبل.
فقال المحامي :
- اتفقنا. أنت تقدم المليونين وأنا أقدم حريتي!
وهكذا جرى هذا الرهان الوحشي المضحك. والواقع أن صاحب المصرف كان في ذلك الوقت يلعب بالملايين ولا يقيم لها وزناً، فلما انتقل القوم إلى مائدة العشاء خاطب المحامي ممازحاً:
- عد إلى رشدك، أيها الشاب، قبل فوات الأوان إن مليوني روبل ليست شيئاً بالنسبة إلي، ولكنك ستخسر ثلاث سنوات أو أربعاً من شبابك، وإنما أقول ثلاثاً أو أربعاً لأنك لن تطيق المقام في السجن أكثر من ذلك.. عد إلى صوابك، قبل فوات الأوان!
ذكر صاحب المصرف ذلك كله، وهو يذرع مكتبه جيئة وذهاباً، ثم ساءل نفسه:
«لم أجريت هذا الرهان؟ أي خير انطوى عليه؟ إنه سيسلب المحامي خمس عشرة سنة من حياته وسيسلبني مليوني روبل. وهل في ذلك ما يقنع الناس بأن الإعدام خير من السجن مدى الحياة أو شر منه؟ لا، لا هذا هراء سخيف!....»
ثم إنه ذكر ما وقع بعد الحفلة الساهرة. لقد تم الاتفاق على أن يمضي المحامي سنوات سجنه تحت أشد المراقبة وأقساها في منزل ملحق بقصر صاحب المصرف. كذلك تم الاتفاق على أن يحرم المحامي حق اجتياز العتبة ورؤية الناس وتسلم الرسائل والصحف! في حين سمح له بآلة موسيقية، وبقراءة الكتب، وكتابة الرسائل، وشرب الخمر وتدخين التبغ. وكان في ميسوره أن يتصل بالعالم الخارجي من طريق نافذة صغيرة، فهو يستطيع أن يحصل على جميع ما يحتاج إليه من الكتب والألحان الموسيقية والخمر بواسطة كلمة يبعث بها من النافذة. ليس هذا فحسب، بل لقد نصّت الاتفاقية على أدق التفصيلات التي تحول دون إمكان اتصال المحامي بكائن من كان، وفرضت عليه أن يظل في محبسه خمسة عشرة عاماً بتمامها من الساعة الثانية عشرة من 14 نوفمبر سنة 1870 حتى الساعة الثانية عشرة من 14 نوفمبر سنة 1885، وأدنى محاولة يقوم بها السجين بسبيل خرق هذه الشروط ـ كأن يهرب قبل دقيقتين فحسب من الميقات المحدد ـ تجعل صاحب المصرف في حِل من دفع قيمة الرهان إليه.
والحق أن المحامي لقي خلال السنة الأولى من سجنه أقسى البلاء من التوحد والضجر، على ما نستطيع أن نستنتج من المذكرات الصغيرة التي كان يخطها. فمن محبسه كانت تنبعث، صباحاً ومساء، أنغام البيانو. ولقد أبى في هذه الفترة أن يتناول شيئاً من الخمر والتبغ. وإنما كتب مرة يقول: «الخمر تحرّك الرغبات، والرغبات هي ألد أعداء السجين. أما التبغ فيفسد الهواء في الغرفة.»
#نقاش_دوت_نت.