اللقاء الثاني

 




وصل حسن إلى القاهرة مع أول خيوط الضوء، في قطارٍ ليليٍّ بدت عرباته القديمة كعلب صدئة تقاوم الزمن بمحركات متعَبة وأصوات صاخبة. على مقاعد الدرجة الثالثة تشابكت أنفاس الركاب مع بخار الشاي وأحلامٍ نصف مستيقظة عن مدنٍ بعيدة تبدو للحظة أقرب من وجع اليوميّ. ترجل حسن على رصيف محطة رمسيس كمن يقفز من صفحةٍ في دفترٍ مبللٍ بالحبر، يحمل حقيبة جلدية فقدت لونها الأصلي، ويكتم في صدره خليطًا من القلق والعناد؛ إذ تعلّم في قريته أن الصبر ليس فضيلةً رومانسيّة، بل وسيلة وحيدة لتأجيل الانهيار.

لم يكن الطريق إلى حيّ امبابة قصيرًا، لكنّه بدا أقصر حين استقبلتُه عند باب المقهى الصغير الذي يجاور محطة الأوتوبيس. كان وجهه شاحبًا، عيناه محاطتان بظلالٍ غامقة؛ غير أن ابتسامة واهنة كانت تحاول أن تنقذه من الاعتراف بالهزيمة.  

وضع الحقيبة بجوار المقعد وجلس في صمت وجلستُ أمامه، وتداخلَ صوت الملاعق في أكواب الزجاج مع صخب المرور الذي لا يهدأ. لم أطرح السؤال فورًا؛ تركتُ اللحظة تتنفس، كأننا نمنحها فرصة كي ترتّب معانيها. ثم همستُ أخيرًا، شاردًا في بخار الشاي:

– كيف تركتَ الأحوال هناك؟ أتغيّر شيء؟

التقط أنفاسه ببطء، وأطرق كمن يُصغي إلى صدى بعيد. 

حين رفع عينيه، كان فيهما حزنٌ عتيق يشبه غبار الطمي على حواف النيل في موسم الجفاف:

– البلد يا صاحبي تغرق، والأسعار نار تحرق أصابع الجميع قبل رغيف الخبز الذي تمتد عليه الطوابير، الناس تمشي على وجعها، تمثل الصلابة كي تخدع البطون الخاوية. لا حكومة تسمع إلا صدى نفسها، ولا مستقبل يلوّح إلا في أحلام ساذجة على قنوات التلفزيون.

لم أجد كلامًا يشبه فداحة ما قال، فاكتفيتُ بصمتٍ يشي بإشفاقٍ لا يكفي لإطفاء حريق. 

سألتُه عن والده، شيخ القرية الذي اعتاد أن يقرأ الجرائد القديمة في جلسته بجوار ضوء النافذة:

– وصحة الوالد؟ ما أخباره؟

هزّ رأسه بأسى، وامتدت يدُه تعبث بحافة كوب الشاي كأنه يتحسّس ندبة غير مرئية:

– كبر وتعب. صار العجز رفيقًا دائمًا يوقظه قبل الفجر ويتركه يحدّق في سقفٍ متشقق. لا دواء يهدّئ ألم مفاصله، ولا طبيب يرضى أن يأتي للبيت من غير ألف جنيه مقدّمًا.

تفرقنا على وعدٍ غامض بلقاء مسائي، وخرج هو متجهًا إلى مستشفى حكومي حيث الأوراق تسافر بين المكاتب أسرع من المرض. أما أنا فتركته مع زحمة الظهيرة وذهبتُ أعلّق مخاوفي على مشجب العمل.

حين أرخى الليل عباءته السوداء، وجدت نفسي في أروقة مول «سيتي ستارز» أتهرّب من فكرةٍ بسيطة: أن الهدية قد لا تكفي لتقول لزوجتي ما لم أفلح في قوله طوال أسابيع من انشغالٍ مرهق. كان المول يلمع كمدينة عائمة فوق بحر الظلام؛ ممرّاته الواسعة تحمل روائح عطور باهظة وأسئلة صامتة عن معنى الرفاهية في زمنٍ مائل. بين واجهات الزجاج وشاشات الدعاية العملاقة، لمحتُ حسن من بعيد.

 تجمدتُ لحظةً وأنا أراه يتجول في المول برفقة زوجته التي لم ألتقها من قبل: شابةٌ ترتدي فستانًا أنيقًا بلون البنفسج، يحمل شعرها مشابك تعكس الأضواء كشراراتٍ صغيرة تطير حولها.

في أيديهما أكياس متعددة، بعضها يلمع بشعار علاماتٍ وماركات عالمية تُحاك أساطيرها في مصانع بعيدة لا تشبه هذا اللمعان. كانا يضحكان، ضحكةً خفيفة كأنها لا تنتمي إلى هذا الهواء المحمّل برطوبة الصيف. 

شعرتُ لوهلةٍ أنني أنظر إلى شخصٍ آخر غير حسن الذي جلس صباحًا يشكو غرق البلاد.

 قاومتُ رغبةً في الابتعاد، ثم وجدت قدميّ تقدّماني نحوهما كما لو أن فضولي يجرُّني بحبلٍ غير مرئي.

اقتربتُ، صافحته بحرارة ممزوجة بدهشةٍ لم أحسن إخفاءها.

 برقت نظرة ارتباك في عينيه، فيما قبضت زوجته على إحدى الأكياس كأنها تتأكد من ثقلها الواقعي. ابتسمتُ وأنا أحدق في ثقل الأكياس:

– واضح إن البلد تعلمت السباحة بعد الظهر!

قهقهت زوجته ضحكًا صافيًا، بينما حاول حسن أن يلتقط العبارة اللاذعة ويخفيها تحت بسمةٍ متوترة:

– حاجات للولاد يا ابن الحلال. هناك مفيش مقاسات مناسبة، وبعدين الواحد لما يحضر مرة يحاول يخلّص كل شيء.

أشرتُ برأسي في تساؤلٍ هادئ: 

– غريب… الصبح قلت إن الناس لا تجد الأكل.

غاص وجهه في ظلٍ طارئ، كأنه أدرك فجأةً سوء تطابق التصريحات.

 قال بصوتٍ خافت لكنه محتدٌّ بخليط من الدفاع والرجاء:

– هي لا تجد فعلًا. صدقني. بس كل واحد يحاول يلاقي لنفسه طُوّق النجاة، اليوم اشتريت لعيالي ملابس العيد حتى لا يشعروا إنهم أقل من غيرهم. ولو لم أفعل هذا، من يعوضهم؟

لم أجد ردًّا يليق بحدّة الازدواج، فابتلعتُ الكلمات مع مرارةٍ تترك طعم الصبار في الفم. 

سألني عن عملي، تهرّبت، ثم ودّعني بسرعة تشبه هروبًا مرتبكًا.

 تركتني، تلك اللحظات، أراقب زوار المول الكبير يدورون في حلقاتٍ حول واجهات المتاجر والأقسام المختلفة، كما لو كانوا يؤدون طقسًا شعائريًّا لاسترضاء شهوة اسمها الاستهلاك.

في طريق العودة، ابتلع الأوتوبيس الليلي جسدي وسط مقاعد مرهقة تنحني تحت أثقال الناس والحكايات.

 ظلّ وجه حسن يطل على نافذتي كصورةٍ متقطعة: حسن الصباحي الذي يحمل قلق أهل قريته في الصعيد على ظهرٍ مقوّس، وحسن المسائي الذي يزهو بأكياسٍ تلمع تحت أضواء النيون.

 سألت نفسي: أيُّ حسن حقيقي؟ وهل نملك ترف أن نكون وجهاً واحدًا في بلدٍ يُجبِر أبناءه على ارتداء أقنعةٍ متعددة يبدلونها مع تغيّر الإشارة الضوئية؟

تذكرتُ أبي حين قال لي يومًا، وهو ينفض التبغ في صحن نحاسي: "ليس الكذب هو أن تقول ما لا يحدث، بل أن تُخفي نصف الحقيقة" ربما حسن ابتلع الحقيقة كاملة، لكنه اضطرّ أن يجتزئها حين يرويها لي كي لا ينهار أمام ثقلها. وربما أنا، في مطالبةٍ ساذجة بالاتساق، تجاهلتُ كيف تُقسّم الحياةُ البشرَ إلى شظايا تتجانس أحيانًا وتصطدم غالبًا.

حين وصلتُ بيتي، وجدت زوجتي قد غفت وفي يدها كتابٌ لم تُكمل صفحاته. وضعتُ الهدية قرب الوسادة، وجلستُ أكتب هذه السطور. 

أردتُ أن أدوّن تضارب الصور قبل أن تذوب في روتين الغد؛ أردتُ أن أتذكّر أن بلادي تشبه حسن: تشتكي العطش وهي قابعة على ضفاف النيل، تبكي الفقر بينما تلمع واجهاتها بالبضائع المستوردة، وتبحث عن وجهٍ حقيقي يَصمد أمام المرآة دون أن يتهشم.

ربما سألتقي حسن في الصباح القادم، وسيحمل حقيبة أقل وزنًا ونظرةً أكثر ثباتًا. أو ربما لن أراه ثانية، لكنّي سأظلّ أمنّي نفسي بأن الحقيقة، رغم تشظّيها، ستنبثق يومًا كقُبلةٍ شافية تنزل على جبين هذا الوطن. وحتى يحين ذلك، سنبقى نتدرب جميعًا على التنفس تحت الماء، كل بطريقته، في بلدٍ يتقن فن الغرق بقدر ما يتقن صنعة النجاة.

فرج مجاهد عبد الوهاب