"عملاق قل أن يجود الزمان بمثله! تستمع إليه فلا تمل حديثه.. يعجبك حسن منطقه وقوة بيانه وجلال صوته الجَهْوَري الذي يُضفى على العربية فحولة إلى فحولتها ويزيدها بهاء على بهائها. وتحادثه فتجد كل المعاني الإنسانية النبيلة الراقية طاغية فائضة. تقرأ له شعرا أو نقدا فتسعد بحسن بيانه، وبرصفه اللغوي المتين، ولا تضجر إذا ما اضطرك كثيرا إلى التقليب في بطون المعاجم!"
لم أكن أدري حين كتبت هذه الكلمات في أواخر عام 2013 في تهنئة أبي همام بعضويته المستحقة منذ سنين بمجمع الخالدين!= أنني كنت أخط رثاء استباقيا لأستاذ عظيم، وشاعر مفلق مبين، هو أحد أعلام دار العلوم الكبار، قبل عام من رحيله!
أبو همام .. رأيته أول ما رأيته عام 2000 ، رجلا مهيب الطلعة، ثائر الشعر، ممسكا بعصاه، متئدا في مشيته عليه سيماء الوقار، فوقعت هيبته في نفسي! وقد كان ساعتها بصحبة عملاق آخر كبير هو الدكتور محمد بلتاجي حسن رئيس قسم الشريعة رحمه الله. حالت هيبته الشديدة تلك دون الاتصال به طيلة سنوات ثلاث، حتى دَرَّس لنا في الفرقة الرابعة؛ فزرعت محبته في قلوبنا جميعا، وكنت أشتهي الاستماع إليه؛ حتى إنني كنت أحضر محاضرته مرتين؛ لأستمتع بالاستماع إلى العربية في ثوبها الأول بصوت جاهلي أو عباسي رخيم، من رجل كأنه قدم إلينا من تلك القرون البعيدة، من عمق التراث العربي، يحمل عبق التاريخ والمجد والأصالة العربية.
لست أحب أن أتحدث في تأبين أبي همام عن علمه وأدبه، وشعره ونثره ونقده، فتلك أمور ذائعة طائرة الذكر بين الناس، ثم إن المقام يضيق عنها، وربما اضطلعت بها مقالات أخرى. لكنني ألفت إلى بعض الجوانب الإنسانية النبيلة في شخصه رحمه الله. فإذا روي أن العلم لا يُقبض انتزاعا ولكن يقبض بقبض العلماء، فإنني أقول إن أبا همام لم يقبض بقبضه العلم وحده، وإنما قبض فيض من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة، فقد كان رحمه الله رجلا من رجال قلائل، يعاش في أكنافهم، ولهم أخلاق الفرسان، في زمان عزت فيه الفرسان!
دمعت عيني من قبل مرتين على علمين من أعلام دار العلوم رحلا، والمرة الثالثة كانت لموت أبي همام، لكنها كانت أشد حرا ومرارة، لأن للرجل في نفسي أبلغ الأثر، ولأنني ما كنت رأيته منذ سنين، ولم أتمكن لظروف السفر من زيارته في مرضه أو شهود جنازته! وقد كنت شديد الشوق إليه. إنني لا أستطيع أن أحكم القبضة الآن على القلم، وقد أسوق أفكارا غير منتظمة بلا ترتيب، يمليها شعور آني يصعب وصفه، لكنني أقول: إذا كان لنا أن نتعلم من موت أبي همام شيئا، فلنتعلم كيف نزرع الحب في قلوب الناس، كيف نزرع فيهم حب الحق والخير والجمال! لقد قال مرارا: "إنني لا أستطيع أن أعيش لحظة بغير الحب"! ظل يحب، ويغرس الحب، حتى غرس الله حبه في قلوب الناس، فأحبه مخالفوه في الفكر قبل مؤديه، فلله دره! ؛ كيف اجتمعت عليه آراء الكرام، وتألفت من حوله قلوبهم.
لقد ذكرني حزن الناس عليه يوم وفاته بما روي عن مشهد جنازة حبة ثمينة في عقد الدراعمة انفرطت قبل قرن من الزمان، هو الشيخ الدرعمي حسن أفندي توفيق العدل (1862 - 1904)، الذي احتشد الناس يوم وفاته وانخلعت قلوبهم، كانخلاعها يوم وفاة أبي همام، حبا وإجلالا وتقديرا، حتى لقد روي أن الإمام محمد عبده حين رأى احتشاد الناس لجنازته قال: "يا بختك يا حسن"!! وحق له بهذا، وحق لأبي همام أيضا أن يحسده الناس، وحق له أن يقول: "حتى على الموت لا أخلو من الحسد"!.
من أهم صفات أبي همام وأحبها إلي قلبي الأنفة والإباء وعزة النفس، تلك الصفات العزيزة في هذا الزمن. لقد كان يباهي رحمه الله بأنه أمضى حياته كلها "استقالات"، في مصر وفي إسبانيا وفي دول الخليج، يستقيل لأنه كان أبيا، كريم النفس، مترفعا عن الدنايا وعن كل ما يشين، لا يسعى إلى المناصب ولا يتزلف إلى السلطان، ولم يأسره حب الظهور، وإنما جاءه ذلك كله طوعا وكرها.
وقد أورثته عزة النفس والأنفة هذه جرأة وصرامة شديدة في التعبير عن الرأي، أثارت إعجابنا، حتى لقد حفظت عنه آراء كثيرة انفرد بها، تدبرتها فيما بعد، فوافقته في بعضها وخالفته في بعض، ومنها:
1- محمد مندور أكذوبة من الأكاذيب الكبرى في حياتنا النقدية.
2- الرافعي رجل كذاب من الناحية الأخلاقية.
3- صلاح عبد الصبور شاعر لا يساوي بصلة.
4- على السفود كتاب يختفي فيه النقد إلى جانب البذاءة.
5- أنا كافر .. بما يسمونه الشعر الحر!
6- نزار قباني شاعر خفيف، يسعك أن تقرأ ديوانه مسترخيا في القطار ثم تلقي به من النافذة في نهاية الرحلة.
سعدت بأبي همام الشاعر الناقد الأديب متحدثا وكاتبا، لكنه كان أحب إلى متحدثا منه كاتبا. ذلك أنك تجد في حديثه قوة المنطق وحسن البيان وجلال اللغة، وتتجلى في صوته فحولة العربية وبداوتها، أما عند القراءة له فإنه كثيرا ما كان يلجئني إلى استشارة المعجم في كل صفحة من صفحات كتابه مرة أو مرتين، فكنت أقرأ كتابه أول مرة مترجما، ثم أعيد القراءة مرة أخرى للاستذكار. غير أنني كنت أجد في ذلك سعادة كبيرة. وقد كان أبو همام أحرص الناس على استعمال الغريب من اللغة ليحيا، سواء في كتابته وفي حديثه، ومن ذلك أنه في موقف مكرور مألوف، أرسلت إليه طالبة وهو في المحاضرة ورقة مكتوبة تطلب إليه أن يعلن في الطلاب عن حقيبة لها فُقِدَت ولمن جاء بها من الله الأجر والثواب، فقرأ الورقة على مسامعنا تلبية لرغبتها، وعلق عليها يقول: "لكنني يا بنيتي لستُ جِلْوازا" فضحكنا لغرابة الكلمة؛ فقال: جِلْواز أي شرطي، والجمع جَلاوِزة. وعند حديثه عن الشعراء المحدثين وكتاب قصيدة النثر بخاصة، كان يرميهم -لتخليهم عن قواعد الشعر وقوانينه الموروثة- بالعجز والإفصاء! وكان يشرح اللفظة في كل مرة. الإفصاء من أفْصَتِ الدجاجة إذا انقطع بيضها! هذا إلى جوار الكلمة الشهيرة "القَرْزَمَة" من قرزم الشاعر شعره إذا جاء به رديئا، في البدايات بخاصة.
درس لنا أبو همام، عليه رحمة الله ورضوانه، الأدب الحديث في الفرقة الرابعة. ولما كان عدد الطلاب كبيرا، انقسمت الفرقة قسمين، يحاضر كل قسم على حدة. فكنت، كما ألمعت سابقا، أحضر له المحاضرة الأولى مع المجموعة التي أنتمي إليها، وكثيرا ما كنت ألزم مكاني لا أبرحه بعد انتهاء المحاضرة حتى يدخل الطلاب الجدد فأحضر معهم المحاضرة الثانية، ولما كنت دائم الجلوس في صدارة الصف لأسعد برؤيته والاستماع إليه عن كثب، كان يفطن إلي فيسألني متعجبا: ألم تكن هنا في المحاضرة الماضية؟ ما جاء بك مرة أخرى؟! إنها محاضرة مكرورة، لن أزيد فيها شيئا عما قلته في المحاضرة الأولى! فأرد عليه مبتسما: أعلم ذلك، لكنني أحب الاستماع إليك! فيبتسم ويسمح لي بالبقاء!
وقد كنا –طلاب دار العلوم- وما زلنا، من أرق طلاب الجامعة حالا، وقد دأب الأساتذة على طباعة المذكرات في أوراق صفراء، ليهون علينا سعرها، لكن "أبو همام" كان يطبع كتبه في الدار المصرية اللبنانية، على ورق أبيض في طبعات فاخرة، فزاد سعر كتابه عن أقرانه في عام 2004 بخمسة جنيهات، وهذا أمر لم نعتده، لكننا اشترينا الكتاب حبا في الرجل وفي المادة التي يقدمها لنا في ثوب شائق جميل.
في المحاضرة الأخيرة أرسل إليه بعض الطلاب يشكون عدم قدرتهم على شراء الكتاب بسبب خمسة الجنيهات الزائدة، فجزع الرجل جزعا شديدا، وطلب إلي، وكنت دائم الجلوس في المقدمة، أن أجمع له أسماء الطلاب الذين لا يقدرون على شراء الكتاب سرا، ليمنحهم نسخا من عنده، فكانوا سبعة طلاب، فكتب رحمه الله ورقة بخط يده إلى صاحب مكتبة "دار النصر"، المسئولة عن توزيع كتابه داخل الجامعة، قال فيها: "الأخ الأستاذ محمد رأفت، رجاء إعطاء السيد/ محمد متولي سبع نسخ من كتابي "شعراء ما بعد الديوان"، وثمنها عندي، سأوصلها إليك وأنا ذاهب إلى البيت اليوم. أبو همام".
وقد احتفظت بصورة من هذه الورقة حتى اليوم، وقد يتساءل بعض الناس، وما دفعك إلى الاحتفاظ بهذه الورقة، فهو موقف عابر لا شيء فيه! أقول: إنه الحب يا صديقي! الحب الذي دفعني إلى أن ألتقط لها صورة؛ تكون لي بها ذكرى!
أبو همام .. الأستاذية وفحولة اللغة:
وجلال اللغة العربية في فم أبي همام لا مثيل له، تسمع العربية منه كما لم تسمعها من أحد قط قبله ولا بعده. يأسرك بصوته الفخم الشامخ، حتى ليخيل إليك أنه كان مع الأعراب في الزمن الأول حين بدأوا يخطون لأنفسهم لغة، وكان علمه بالعربية كأنما صنعها على عينه! وهو على جلاله وهيبته، كان أرفق الناس بالناس، فقد كان، وهو من أحرص الناس على سلامة العربية، يستقرئ الطلاب في المحاضرات فيخطئون، فيصوب لهم لحنا ويغضى عن لحون، تشجيعا لهم، ودفعا للحرج، وبناء للثقة في نفوسهم. هذا الرجل الذي ما سمعته يلحن قط، إلا ما قد يقع من سبق لسان يتداركه، وهو نادر الوقوع، لم يكن يعنف بالمخطئين، وإنما يصوب لهم في رفق شديد لا مثيل له! وقد كان يجلس أحيانا على المنصة في المحافل فتراه يقبل اللحون من أقرانه، يخطئون في اللغة أمام الناس بأثر من السن أو بأثر من الجهل، لكني ما رأيته إلا رفيقا كريم النفس، تجد خصمه في الحوار لحّانة، وهو قادر على إفحامه وسحقه بلسان من نار، لكنه لم يكن يفعل، وذلك من تمام المروءة ولا ريب!
لم يكن العلم ولم تكن الأستاذية عند أبي همام مجرد وظيفة: (محاضرات تُلقى.. ومذكرات تُباع)! كلا والله، لم تكن كذلك! لقد كان قامة كبيرة، وعقلا جبارا فاعلا، وفكرا رصينا، صاحب مواقف ثابتة، ومبادئ راسخة. اجتمع له كل ذلك مع جمال اللسان، فغدت للرجل أقوال مأثورة، وعبارات محفوطة، شهية في الأسماع، لها وقع في القلوب وحلاوة في الحلوق، تُحفظ عنه وتُتلى! وهذا لعمري مما لا يؤتاه كل أحد! وكيف لا وقد زرع الرجل في نفوس طلابه على مدار حياته بذورا طيبة، مهد لها الأرض وجملها ورواها، فأورقت، وأثمرت، ونمت حتى صافحت فروعها عنان السماء!
وقد كان أبو همام شديد التواضع قريبا من الطلاب، فأسر قلوبهم في هيبة وإجلال. أذكر أنه خرج من باب الكلية يوما فأقبل عليه زملائي الطلاب يصافحونه، ويبدو أنه كان قد فرغ من تصحيح الامتحان، فتأخرت عنهم في مصافحته وقد غلبني شيء من الحياء، فلما اقتربت منه صافحني وعانقني، فذهلت للمفاجأة! ثم لم يترك يدي، وانتحى بي جانبا وابتعدنا خطوات، فشد على يدي وقال لي: "أنت محمد متولي؟" قلت: "نعم" فقال: "أنت كويس يا ولد"! فكدت أرقص طربا إذ نلت بعبارته هذه أعلى شهادة يمنحها الرجل. وقد كانت هذه الكلمة إشارة منه إلى ما عرفته فيما بعد من أنني حصلت على الدرجة كاملة في مادة الأدب والنصوص. وأعترف بفضله رحمه الله علي؛ إذ سعى وأستاذي الدكتور شفيع السيد فيما بعد إلى تحقيق رغبتي في الالتحاق بقسم البلاغة والنقد.
وقد كان لأبي همام شغف عظيم بالفكاهة والدعابة، وكان يحرص على معرفة الجديد من النكات، فلامه في ذلك بعض المتشددين، فحمل عليهم، واستشهد بصديقه الفقيه المجتهد الدكتور محمد بلتاجي حسن رئيس قسم الشريعة رحمه الله. وكانت بينهما صداقة ومودة عظيمة، حتى إن الدكتور بلتاجي كان يطلب إلى أبي همام أحيانا أن يكون معه في ندواته الفقهية يديرها، وقد شهدت واحدة منها عام ٢٠٠١. قال أبو همام إن الدكتور بلتاجي، على علمه وفقهه، رجل مولع بالنكات كذلك، وربما هاتفه في ساعة متأخرة من الليل يسأله عن الجديد في سوق النكتة، فيخبره أبو همام بما معه، فيرد الدكتور بلتاجي: هذه قديمة يا مولانا! خذ مني هذه، ويخبره بأحدث ما وصل إليه ثم يأخذان في الضحك، عليهما رحمة الله.
أبو همام الأب .. حكاية من حكايات:
لقد بلغ من شغفنا -نحن الطلاب- بأبي همام أننا لم نكن نكتفي بحضور محاضراته، وإنما كنا نتحسس أخبار ندواته ومناقشاته، فنتبعه في كل مكان.. في بيت الأمة ومتحف شوقي والمجلس الأعلى للثقافة، ونحضر له مناقشات الرسائل، وكان منها مناقشته لرسالة في الشعر الجاهلي لن أذكر عنوانها! لأنه دعا إلى مناقشتها أستاذا للأدب الجاهلي، كان غليظ الطبع لم يهذبه العلم، ولم يكن حظه من أدب الجاهلية إلا اسمها، وذلك أن زميلا لنا كان يعرف ذلك الأستاذ، فهو مشرف في إحدى الكليات على رسالة الماجستير لمعلمه الذي حبب إليه العربية في الثانوية العامة. فسعد زميلنا هذا بأن رأى أستاذ أستاذه، فتقدم إليه بعد الفراغ من المناقشة ورحب به وعرفه بنفسه، وذكر له اسم معلمه، الباحث الذي يشرف عليه، ولم يكن يدري زميلنا أن جفوة وقعت بينهما، فهاج الرجل لما سمع اسم الباحث هياجا عظيما وسبَّه وسَبَّنا وسبَّ محافظة كفر الشيخ وأهلها جميعا بكلام قبيح، ورمى أعراضهم بألفاظ يحرم الدين ذكرها وتمنع الرقابة نشرها، وعزا فساد أخلاق أهل هذه المحافظة إلى أن نيل مصر العظيم لا يمر بأرضها، فلم يهذب أهلها كما هذب أهل بلدته.. فبهتنا لثورة الرجل ولم نك نتوقعها، فذهلنا وشخصت أبصارنا وضاعت الكلمات من شفاهنا! وسقط من أنظارنا، ليس لحمقه وجاهليته فحسب، وإنما لجهله ورسوبه في الجغرافيا أيضا، فهو لا يعلم أن النيل يمر ببلدتنا حتى لتبتل منه عتبات البيوت!
كنا صغارا .. فضاقت صدورنا وأخذتنا الحمية للدفاع عن بلدنا وأعراض أهلنا، لكن ماذا عسانا نصنع مع هذا الثور الهائج! قلت لصديقي: دعك منه، وكأن شيئا لم يكن! فأبى صديقي إلا أن نشكوه إلى أبي همام، ونطلعه على ما كان، فهو من دعاه إلى المناقشة!!
ذهبنا إلى أبي همام في مكتبه، وقد اربدّت وجوهنا، ولم نكن لنذهب إليه إلا لشعور طاغ بالحب والأبوة لمسناه.. وأخبرناه بما كان من ضيفه، غير أن الحياء غلبنا فلم نقدر على إعادة قبيح الكلام؛ فظل الرجل يستنطقنا فلم ننطق إلا بكلمات يسيرة، فطن منها رحمه الله إلى ما كان، فثار ثورة عظيمة على الضيف اللئيم، وقال كلاما شديدا في النقمة عليه أفثأ به غضبنا وأثلج صدورنا ولم يزل بنا حتى رضيت نفوسنا وانصرفنا باسمين.
أبو همام على رقته ورفقه وسلامة صدره، لم يكن خبا ولا الخب يخدعه! وكان يضيق بأخلاق اللئام والمتلونين، شأن كل كريم حر في هذا الزمان! تعرف ذلك في مواقف له كثيرة، يضيق
المقام عن ذكرها، ولكن انظر أثرها في أشعاره، يقول في لزوميه له طريفة محكمة:
أعرفكم، مهلا؛ فما غرني ** ما أظهر القلب، وما قد خبأ
بسمتكم كالثلج، خداعة ** إذا علته الشمس في المرتبأ
صحبتموني زمنا، ليتني ** ما كان عندي من زمان نبأ
ثم تدابرنا؛ فما ساءني ** أن ودادا زائفا قد صبأ
غدوت لا آسى، ولا أرتجي ** سيان عندي من نبا أو عبأ
قد وبئت نفسي من قربكم ** عفوا إذا عفت وخيم الوبأ
أبو همام لم يكن يدرس في السنوات الأخيرة سوى الشعر الحديث للفرقة الرابعة، ومدة الدراسة لم تكن طويلة، لكننا كنا نعجب كيف ترك الرجل فينا كل هذا الأثر في هذه المدة الوجيزة؟! تدبرت ذلك فوجدت أن دراستي في دار العلوم كانت أشبه شيء بقصيدة عربية خالدة محكمة البناء، وكان أبو همام مسك ختامها، حتى ليصدق عليه قول "ابن رشيق" في كتاب "العمدة": "وخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس؛ لقرب العهد بها"، ويقول في موضع آخر: "وأما الانتهاء فهو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكما، لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه"! إي والله! محكم، لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه! أقول ذلك لأن أبا همام كان مسك الختام، ولو كان مطلعا لكان ذلك من حسن الابتداءات وبراعة الاستهلال، ولو جاء وسطا لكان من حسن التخلص وبراعة الانتقال! فهو لبنة طيبة في الصرح الدرعمي المهيب، تحسن في كل موضع منه على كل حال.
مات أبو همام .. ذلكم الرجل العظيم الذي صحب المتنبي زمنا، وصحب أبا العلاء وابن الرومي والشريف الرضي وإخوان ذلك الطراز، صحبهم فنقل إلينا أرواحهم، فملأ الدنيا وشغل الناس، وها هو اليوم يفارق، لكنه يحيا في نفوسنا وعقولنا، ويترك في الدنيا مجدا مدويا –يقول المتنبي في مثله- كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر! لقد مات أبو همام وما كان موته موت واحد، ولكنه بنيان قوم تهدم!
#نقاش_دوت_نتأبو همام . . في ذكراه السادسة!
.......................................
"عملاق قل أن يجود الزمان بمثله! تستمع إليه فلا تمل حديثه.. يعجبك حسن منطقه وقوة بيانه وجلال صوته الجَهْوَري الذي يُضفى على العربية فحولة إلى فحولتها ويزيدها بهاء على بهائها. وتحادثه فتجد كل المعاني الإنسانية النبيلة الراقية طاغية فائضة. تقرأ له شعرا أو نقدا فتسعد بحسن بيانه، وبرصفه اللغوي المتين، ولا تضجر إذا ما اضطرك كثيرا إلى التقليب في بطون المعاجم!"
لم أكن أدري حين كتبت هذه الكلمات في أواخر عام 2013 في تهنئة أبي همام بعضويته المستحقة منذ سنين بمجمع الخالدين!= أنني كنت أخط رثاء استباقيا لأستاذ عظيم، وشاعر مفلق مبين، هو أحد أعلام دار العلوم الكبار، قبل عام من رحيله!
أبو همام .. رأيته أول ما رأيته عام 2000 ، رجلا مهيب الطلعة، ثائر الشعر، ممسكا بعصاه، متئدا في مشيته عليه سيماء الوقار، فوقعت هيبته في نفسي! وقد كان ساعتها بصحبة عملاق آخر كبير هو الدكتور محمد بلتاجي حسن رئيس قسم الشريعة رحمه الله. حالت هيبته الشديدة تلك دون الاتصال به طيلة سنوات ثلاث، حتى دَرَّس لنا في الفرقة الرابعة؛ فزرعت محبته في قلوبنا جميعا، وكنت أشتهي الاستماع إليه؛ حتى إنني كنت أحضر محاضرته مرتين؛ لأستمتع بالاستماع إلى العربية في ثوبها الأول بصوت جاهلي أو عباسي رخيم، من رجل كأنه قدم إلينا من تلك القرون البعيدة، من عمق التراث العربي، يحمل عبق التاريخ والمجد والأصالة العربية.
لست أحب أن أتحدث في تأبين أبي همام عن علمه وأدبه، وشعره ونثره ونقده، فتلك أمور ذائعة طائرة الذكر بين الناس، ثم إن المقام يضيق عنها، وربما اضطلعت بها مقالات أخرى. لكنني ألفت إلى بعض الجوانب الإنسانية النبيلة في شخصه رحمه الله. فإذا روي أن العلم لا يُقبض انتزاعا ولكن يقبض بقبض العلماء، فإنني أقول إن أبا همام لم يقبض بقبضه العلم وحده، وإنما قبض فيض من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة، فقد كان رحمه الله رجلا من رجال قلائل، يعاش في أكنافهم، ولهم أخلاق الفرسان، في زمان عزت فيه الفرسان!
دمعت عيني من قبل مرتين على علمين من أعلام دار العلوم رحلا، والمرة الثالثة كانت لموت أبي همام، لكنها كانت أشد حرا ومرارة، لأن للرجل في نفسي أبلغ الأثر، ولأنني ما كنت رأيته منذ سنين، ولم أتمكن لظروف السفر من زيارته في مرضه أو شهود جنازته! وقد كنت شديد الشوق إليه. إنني لا أستطيع أن أحكم القبضة الآن على القلم، وقد أسوق أفكارا غير منتظمة بلا ترتيب، يمليها شعور آني يصعب وصفه، لكنني أقول: إذا كان لنا أن نتعلم من موت أبي همام شيئا، فلنتعلم كيف نزرع الحب في قلوب الناس، كيف نزرع فيهم حب الحق والخير والجمال! لقد قال مرارا: "إنني لا أستطيع أن أعيش لحظة بغير الحب"! ظل يحب، ويغرس الحب، حتى غرس الله حبه في قلوب الناس، فأحبه مخالفوه في الفكر قبل مؤديه، فلله دره! ؛ كيف اجتمعت عليه آراء الكرام، وتألفت من حوله قلوبهم.
لقد ذكرني حزن الناس عليه يوم وفاته بما روي عن مشهد جنازة حبة ثمينة في عقد الدراعمة انفرطت قبل قرن من الزمان، هو الشيخ الدرعمي حسن أفندي توفيق العدل (1862 - 1904)، الذي احتشد الناس يوم وفاته وانخلعت قلوبهم، كانخلاعها يوم وفاة أبي همام، حبا وإجلالا وتقديرا، حتى لقد روي أن الإمام محمد عبده حين رأى احتشاد الناس لجنازته قال: "يا بختك يا حسن"!! وحق له بهذا، وحق لأبي همام أيضا أن يحسده الناس، وحق له أن يقول: "حتى على الموت لا أخلو من الحسد"!.
من أهم صفات أبي همام وأحبها إلي قلبي الأنفة والإباء وعزة النفس، تلك الصفات العزيزة في هذا الزمن. لقد كان يباهي رحمه الله بأنه أمضى حياته كلها "استقالات"، في مصر وفي إسبانيا وفي دول الخليج، يستقيل لأنه كان أبيا، كريم النفس، مترفعا عن الدنايا وعن كل ما يشين، لا يسعى إلى المناصب ولا يتزلف إلى السلطان، ولم يأسره حب الظهور، وإنما جاءه ذلك كله طوعا وكرها.
وقد أورثته عزة النفس والأنفة هذه جرأة وصرامة شديدة في التعبير عن الرأي، أثارت إعجابنا، حتى لقد حفظت عنه آراء كثيرة انفرد بها، تدبرتها فيما بعد، فوافقته في بعضها وخالفته في بعض، ومنها:
1- محمد مندور أكذوبة من الأكاذيب الكبرى في حياتنا النقدية.
2- الرافعي رجل كذاب من الناحية الأخلاقية.
3- صلاح عبد الصبور شاعر لا يساوي بصلة.
4- على السفود كتاب يختفي فيه النقد إلى جانب البذاءة.
5- أنا كافر .. بما يسمونه الشعر الحر!
6- نزار قباني شاعر خفيف، يسعك أن تقرأ ديوانه مسترخيا في القطار ثم تلقي به من النافذة في نهاية الرحلة.
سعدت بأبي همام الشاعر الناقد الأديب متحدثا وكاتبا، لكنه كان أحب إلى متحدثا منه كاتبا. ذلك أنك تجد في حديثه قوة المنطق وحسن البيان وجلال اللغة، وتتجلى في صوته فحولة العربية وبداوتها، أما عند القراءة له فإنه كثيرا ما كان يلجئني إلى استشارة المعجم في كل صفحة من صفحات كتابه مرة أو مرتين، فكنت أقرأ كتابه أول مرة مترجما، ثم أعيد القراءة مرة أخرى للاستذكار. غير أنني كنت أجد في ذلك سعادة كبيرة. وقد كان أبو همام أحرص الناس على استعمال الغريب من اللغة ليحيا، سواء في كتابته وفي حديثه، ومن ذلك أنه في موقف مكرور مألوف، أرسلت إليه طالبة وهو في المحاضرة ورقة مكتوبة تطلب إليه أن يعلن في الطلاب عن حقيبة لها فُقِدَت ولمن جاء بها من الله الأجر والثواب، فقرأ الورقة على مسامعنا تلبية لرغبتها، وعلق عليها يقول: "لكنني يا بنيتي لستُ جِلْوازا" فضحكنا لغرابة الكلمة؛ فقال: جِلْواز أي شرطي، والجمع جَلاوِزة. وعند حديثه عن الشعراء المحدثين وكتاب قصيدة النثر بخاصة، كان يرميهم -لتخليهم عن قواعد الشعر وقوانينه الموروثة- بالعجز والإفصاء! وكان يشرح اللفظة في كل مرة. الإفصاء من أفْصَتِ الدجاجة إذا انقطع بيضها! هذا إلى جوار الكلمة الشهيرة "القَرْزَمَة" من قرزم الشاعر شعره إذا جاء به رديئا، في البدايات بخاصة.
درس لنا أبو همام، عليه رحمة الله ورضوانه، الأدب الحديث في الفرقة الرابعة. ولما كان عدد الطلاب كبيرا، انقسمت الفرقة قسمين، يحاضر كل قسم على حدة. فكنت، كما ألمعت سابقا، أحضر له المحاضرة الأولى مع المجموعة التي أنتمي إليها، وكثيرا ما كنت ألزم مكاني لا أبرحه بعد انتهاء المحاضرة حتى يدخل الطلاب الجدد فأحضر معهم المحاضرة الثانية، ولما كنت دائم الجلوس في صدارة الصف لأسعد برؤيته والاستماع إليه عن كثب، كان يفطن إلي فيسألني متعجبا: ألم تكن هنا في المحاضرة الماضية؟ ما جاء بك مرة أخرى؟! إنها محاضرة مكرورة، لن أزيد فيها شيئا عما قلته في المحاضرة الأولى! فأرد عليه مبتسما: أعلم ذلك، لكنني أحب الاستماع إليك! فيبتسم ويسمح لي بالبقاء!
وقد كنا –طلاب دار العلوم- وما زلنا، من أرق طلاب الجامعة حالا، وقد دأب الأساتذة على طباعة المذكرات في أوراق صفراء، ليهون علينا سعرها، لكن "أبو همام" كان يطبع كتبه في الدار المصرية اللبنانية، على ورق أبيض في طبعات فاخرة، فزاد سعر كتابه عن أقرانه في عام 2004 بخمسة جنيهات، وهذا أمر لم نعتده، لكننا اشترينا الكتاب حبا في الرجل وفي المادة التي يقدمها لنا في ثوب شائق جميل.
في المحاضرة الأخيرة أرسل إليه بعض الطلاب يشكون عدم قدرتهم على شراء الكتاب بسبب خمسة الجنيهات الزائدة، فجزع الرجل جزعا شديدا، وطلب إلي، وكنت دائم الجلوس في المقدمة، أن أجمع له أسماء الطلاب الذين لا يقدرون على شراء الكتاب سرا، ليمنحهم نسخا من عنده، فكانوا سبعة طلاب، فكتب رحمه الله ورقة بخط يده إلى صاحب مكتبة "دار النصر"، المسئولة عن توزيع كتابه داخل الجامعة، قال فيها: "الأخ الأستاذ محمد رأفت، رجاء إعطاء السيد/ محمد متولي سبع نسخ من كتابي "شعراء ما بعد الديوان"، وثمنها عندي، سأوصلها إليك وأنا ذاهب إلى البيت اليوم. أبو همام".
وقد احتفظت بصورة من هذه الورقة حتى اليوم، وقد يتساءل بعض الناس، وما دفعك إلى الاحتفاظ بهذه الورقة، فهو موقف عابر لا شيء فيه! أقول: إنه الحب يا صديقي! الحب الذي دفعني إلى أن ألتقط لها صورة؛ تكون لي بها ذكرى!
أبو همام .. الأستاذية وفحولة اللغة:
وجلال اللغة العربية في فم أبي همام لا مثيل له، تسمع العربية منه كما لم تسمعها من أحد قط قبله ولا بعده. يأسرك بصوته الفخم الشامخ، حتى ليخيل إليك أنه كان مع الأعراب في الزمن الأول حين بدأوا يخطون لأنفسهم لغة، وكان علمه بالعربية كأنما صنعها على عينه! وهو على جلاله وهيبته، كان أرفق الناس بالناس، فقد كان، وهو من أحرص الناس على سلامة العربية، يستقرئ الطلاب في المحاضرات فيخطئون، فيصوب لهم لحنا ويغضى عن لحون، تشجيعا لهم، ودفعا للحرج، وبناء للثقة في نفوسهم. هذا الرجل الذي ما سمعته يلحن قط، إلا ما قد يقع من سبق لسان يتداركه، وهو نادر الوقوع، لم يكن يعنف بالمخطئين، وإنما يصوب لهم في رفق شديد لا مثيل له! وقد كان يجلس أحيانا على المنصة في المحافل فتراه يقبل اللحون من أقرانه، يخطئون في اللغة أمام الناس بأثر من السن أو بأثر من الجهل، لكني ما رأيته إلا رفيقا كريم النفس، تجد خصمه في الحوار لحّانة، وهو قادر على إفحامه وسحقه بلسان من نار، لكنه لم يكن يفعل، وذلك من تمام المروءة ولا ريب!
لم يكن العلم ولم تكن الأستاذية عند أبي همام مجرد وظيفة: (محاضرات تُلقى.. ومذكرات تُباع)! كلا والله، لم تكن كذلك! لقد كان قامة كبيرة، وعقلا جبارا فاعلا، وفكرا رصينا، صاحب مواقف ثابتة، ومبادئ راسخة. اجتمع له كل ذلك مع جمال اللسان، فغدت للرجل أقوال مأثورة، وعبارات محفوطة، شهية في الأسماع، لها وقع في القلوب وحلاوة في الحلوق، تُحفظ عنه وتُتلى! وهذا لعمري مما لا يؤتاه كل أحد! وكيف لا وقد زرع الرجل في نفوس طلابه على مدار حياته بذورا طيبة، مهد لها الأرض وجملها ورواها، فأورقت، وأثمرت، ونمت حتى صافحت فروعها عنان السماء!
وقد كان أبو همام شديد التواضع قريبا من الطلاب، فأسر قلوبهم في هيبة وإجلال. أذكر أنه خرج من باب الكلية يوما فأقبل عليه زملائي الطلاب يصافحونه، ويبدو أنه كان قد فرغ من تصحيح الامتحان، فتأخرت عنهم في مصافحته وقد غلبني شيء من الحياء، فلما اقتربت منه صافحني وعانقني، فذهلت للمفاجأة! ثم لم يترك يدي، وانتحى بي جانبا وابتعدنا خطوات، فشد على يدي وقال لي: "أنت محمد متولي؟" قلت: "نعم" فقال: "أنت كويس يا ولد"! فكدت أرقص طربا إذ نلت بعبارته هذه أعلى شهادة يمنحها الرجل. وقد كانت هذه الكلمة إشارة منه إلى ما عرفته فيما بعد من أنني حصلت على الدرجة كاملة في مادة الأدب والنصوص. وأعترف بفضله رحمه الله علي؛ إذ سعى وأستاذي الدكتور شفيع السيد فيما بعد إلى تحقيق رغبتي في الالتحاق بقسم البلاغة والنقد.
وقد كان لأبي همام شغف عظيم بالفكاهة والدعابة، وكان يحرص على معرفة الجديد من النكات، فلامه في ذلك بعض المتشددين، فحمل عليهم، واستشهد بصديقه الفقيه المجتهد الدكتور محمد بلتاجي حسن رئيس قسم الشريعة رحمه الله. وكانت بينهما صداقة ومودة عظيمة، حتى إن الدكتور بلتاجي كان يطلب إلى أبي همام أحيانا أن يكون معه في ندواته الفقهية يديرها، وقد شهدت واحدة منها عام ٢٠٠١. قال أبو همام إن الدكتور بلتاجي، على علمه وفقهه، رجل مولع بالنكات كذلك، وربما هاتفه في ساعة متأخرة من الليل يسأله عن الجديد في سوق النكتة، فيخبره أبو همام بما معه، فيرد الدكتور بلتاجي: هذه قديمة يا مولانا! خذ مني هذه، ويخبره بأحدث ما وصل إليه ثم يأخذان في الضحك، عليهما رحمة الله.
أبو همام الأب .. حكاية من حكايات:
لقد بلغ من شغفنا -نحن الطلاب- بأبي همام أننا لم نكن نكتفي بحضور محاضراته، وإنما كنا نتحسس أخبار ندواته ومناقشاته، فنتبعه في كل مكان.. في بيت الأمة ومتحف شوقي والمجلس الأعلى للثقافة، ونحضر له مناقشات الرسائل، وكان منها مناقشته لرسالة في الشعر الجاهلي لن أذكر عنوانها! لأنه دعا إلى مناقشتها أستاذا للأدب الجاهلي، كان غليظ الطبع لم يهذبه العلم، ولم يكن حظه من أدب الجاهلية إلا اسمها، وذلك أن زميلا لنا كان يعرف ذلك الأستاذ، فهو مشرف في إحدى الكليات على رسالة الماجستير لمعلمه الذي حبب إليه العربية في الثانوية العامة. فسعد زميلنا هذا بأن رأى أستاذ أستاذه، فتقدم إليه بعد الفراغ من المناقشة ورحب به وعرفه بنفسه، وذكر له اسم معلمه، الباحث الذي يشرف عليه، ولم يكن يدري زميلنا أن جفوة وقعت بينهما، فهاج الرجل لما سمع اسم الباحث هياجا عظيما وسبَّه وسَبَّنا وسبَّ محافظة كفر الشيخ وأهلها جميعا بكلام قبيح، ورمى أعراضهم بألفاظ يحرم الدين ذكرها وتمنع الرقابة نشرها، وعزا فساد أخلاق أهل هذه المحافظة إلى أن نيل مصر العظيم لا يمر بأرضها، فلم يهذب أهلها كما هذب أهل بلدته.. فبهتنا لثورة الرجل ولم نك نتوقعها، فذهلنا وشخصت أبصارنا وضاعت الكلمات من شفاهنا! وسقط من أنظارنا، ليس لحمقه وجاهليته فحسب، وإنما لجهله ورسوبه في الجغرافيا أيضا، فهو لا يعلم أن النيل يمر ببلدتنا حتى لتبتل منه عتبات البيوت!
كنا صغارا .. فضاقت صدورنا وأخذتنا الحمية للدفاع عن بلدنا وأعراض أهلنا، لكن ماذا عسانا نصنع مع هذا الثور الهائج! قلت لصديقي: دعك منه، وكأن شيئا لم يكن! فأبى صديقي إلا أن نشكوه إلى أبي همام، ونطلعه على ما كان، فهو من دعاه إلى المناقشة!!
ذهبنا إلى أبي همام في مكتبه، وقد اربدّت وجوهنا، ولم نكن لنذهب إليه إلا لشعور طاغ بالحب والأبوة لمسناه.. وأخبرناه بما كان من ضيفه، غير أن الحياء غلبنا فلم نقدر على إعادة قبيح الكلام؛ فظل الرجل يستنطقنا فلم ننطق إلا بكلمات يسيرة، فطن منها رحمه الله إلى ما كان، فثار ثورة عظيمة على الضيف اللئيم، وقال كلاما شديدا في النقمة عليه أفثأ به غضبنا وأثلج صدورنا ولم يزل بنا حتى رضيت نفوسنا وانصرفنا باسمين.
أبو همام على رقته ورفقه وسلامة صدره، لم يكن خبا ولا الخب يخدعه! وكان يضيق بأخلاق اللئام والمتلونين، شأن كل كريم حر في هذا الزمان! تعرف ذلك في مواقف له كثيرة، يضيق
المقام عن ذكرها، ولكن انظر أثرها في أشعاره، يقول في لزوميه له طريفة محكمة:
أعرفكم، مهلا؛ فما غرني ** ما أظهر القلب، وما قد خبأ
بسمتكم كالثلج، خداعة ** إذا علته الشمس في المرتبأ
صحبتموني زمنا، ليتني ** ما كان عندي من زمان نبأ
ثم تدابرنا؛ فما ساءني ** أن ودادا زائفا قد صبأ
غدوت لا آسى، ولا أرتجي ** سيان عندي من نبا أو عبأ
قد وبئت نفسي من قربكم ** عفوا إذا عفت وخيم الوبأ
أبو همام لم يكن يدرس في السنوات الأخيرة سوى الشعر الحديث للفرقة الرابعة، ومدة الدراسة لم تكن طويلة، لكننا كنا نعجب كيف ترك الرجل فينا كل هذا الأثر في هذه المدة الوجيزة؟! تدبرت ذلك فوجدت أن دراستي في دار العلوم كانت أشبه شيء بقصيدة عربية خالدة محكمة البناء، وكان أبو همام مسك ختامها، حتى ليصدق عليه قول "ابن رشيق" في كتاب "العمدة": "وخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس؛ لقرب العهد بها"، ويقول في موضع آخر: "وأما الانتهاء فهو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكما، لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه"! إي والله! محكم، لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه! أقول ذلك لأن أبا همام كان مسك الختام، ولو كان مطلعا لكان ذلك من حسن الابتداءات وبراعة الاستهلال، ولو جاء وسطا لكان من حسن التخلص وبراعة الانتقال! فهو لبنة طيبة في الصرح الدرعمي المهيب، تحسن في كل موضع منه على كل حال.
مات أبو همام .. ذلكم الرجل العظيم الذي صحب المتنبي زمنا، وصحب أبا العلاء وابن الرومي والشريف الرضي وإخوان ذلك الطراز، صحبهم فنقل إلينا أرواحهم، فملأ الدنيا وشغل الناس، وها هو اليوم يفارق، لكنه يحيا في نفوسنا وعقولنا، ويترك في الدنيا مجدا مدويا –يقول المتنبي في مثله- كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر! لقد مات أبو همام وما كان موته موت واحد، ولكنه بنيان قوم تهدم!