مقطع من رواية " أرض الدم والنار " لعمرو زين .




في أحداث لاهثة ومشاهد قتالية متلاحقة  تدور أجواء الرواية الملحمية التي تحمل عديد الرسائل وتؤكد على الثابت الأهم في ظل التشويش المتعمد على كل الثوابت  في حياتنا.

                                  **

فى تمام السابعة التأم شملهم داخل قاعة المحاضرات فى انتظار وصول مدير المشروع،دخل الرجل عليهم يعرج في مشيته،انتاب إبراهيم شعور غريب وهو يتفحص وجهه،إذ شعر وكأنه التقى به من قبل في مكان أو زمان ما،وقعت عين الرجل على إبراهيم،ثبت نظراته عليه لحظات، تملك إبراهيم أثنائها إحساس بالقلق لا يعرف مصدره:

- أنت مصري؟ سأل الرجل إبراهيم. 

- أيوه !

 هز الرجل رأسه مرات ثم أكمل محاضرته عن الأهداف المطلوب تحقيقها فى المرحلة المقبلة،وفي النهاية حمل أوراقه معه خارجًا من القاعة ولكنه قبل أن يدلف خارجها التفت إلى إبراهيم سائلاً فى لهجة مصرية سليمة:

- إحنا ما اتقابلناش قبل كده يا...؟

-  علاء ، اسمي علاء الدين !

       - علاء الدين والمصباح السحري،أرجو ألا تكون قد نسيت إحضاره معك؟

اكتفى إبراهيم بالابتسام وواصل الرجل طريقه،لم يكن المدير سوى هذا الرجل الذي أرسل من قبل أوامره إلى العناصر الإرهابية لتقوم بتصفية إبراهيم عندما نُشر الخبر عنه في الجرائد المصرية،لولا أنّ هيئة إبراهيم قد تغيرت كثيرًا منذ ذلك الحين، فوقًا عن أنه صار بلحية كثيفة وغيّر اسمه وحمل أوراق ثبوتية بهويته الجديدة لكشف مدير المشروع أمره على الفور،ومع ذلك فإن نظرات الرجل المتشككة التي صوبها نحو إبراهيم وتوجيه مثل هذا السؤال إليه دون سواه أثار فى نفس إبراهيم الهواجس وحفزه على أن يعجل بتنفيذ خطته مبكرًا عن الموعد المحدد سلفًا ليكون فى التاسعة بدلاً عن الثانية عشر في منتصف الليل، أقرب موعد  لتغيير نوبة الحراسة،وتبديل أطقم المراقبة فى المبنى،ففي الثواني التي تتم فيها عملية تغيير الحراسة يمكنه المرور والوصول إلى مخزن الأسلحة القابع أسفل المبنى كما ستتيح له  عملية التشويش على كاميرات المراقبة وأجهزة الرقابة والسيطرة المزيد من الدقائق ولو كانت قليلة لا تتجاوز ثلاث أو أربع دقائق على أكثر تقدير ،إلا أن هذا كل ما يحتاج إليه من وقت لإتمام مهمته طالما لم يعترضه مانع مفاجيء.

 قامت خطته على تثبيت الصورة فى كاميرات المراقبة بحيث لا تظهر على الشاشات سوى صورة واحدة،وبهذا لا تلتقط الكاميرات تحركاته ولا تحدد مكان تواجده.

قام إبراهيم فور عودته بالأمور التي اعتاد أن يفعلها حتى لا يثير ريبة أحد من أفراد المراقبة،ثم رقد فى فراشه متظاهرًا أنه يقرأ الملف الذي سلم إليهم،ولكنه فى حقيقة الأمر كان يتحين أن تعلن عقارب الموعد المرتقب،دق جرس التاسعة فقفز من السرير وعلق جهازًا صغيرًا لا يزيد حجمه عن العملة المعدنية على إحدى الكاميرات، عرف من دراسته أن الكاميرات تعمل بنظام متواز في كل غرفة وفي كل ممر لذا يكفي أن تشوش على كاميرا واحدة  لتشل عمل بقية الكاميرات،خرج من حجرته سريعًا وثبّت جهاز تشويش ثانٍ على إحدى الكاميرات فى الممر،ثم انطلق إلى الدور  الأسفل ومنه إلى مخازن الأسلحة،مخترقًا جميع الأبواب الإلكترونية المشفرة،اختار نوعية خاصة من الأسلحة والمتفجرات التي تتسم بقدرة تدميرية فائقة على قلة حجمها،وحملها فى حقيبة على ظهره،وقبل أن يغادر المخزن ضبط قنبلة وحمل مفجرها فى يده لتأتي على المخزن وبالتالي على المبنى بأكمله، ما إن خرج من المخزن حتى لاحظ أنّ الكاميرات عادت للعمل مرة أخرى"لابد أنهم اكتشفوا عملية التشويش ويبحثون عن مصدر الاختراق!"

 انطلق يعدو قاصدًا مخرج المبنى من هذه الجهة،اعترضه أحد أفراد الحراسة ولكنه تخلص منه بضربات سريعة ومتقنة ثم انطلق خارج المبنى،واستمر يعدو في إتجاه بوابة الحراسة،تلقى الحرس على البوابة الأوامر بإيقاف إبراهيم،ألقى إبراهيم بالحقيبة على الأرض،وأخرج منها أجزاء مدفع ركبه فى سرعة وأطلق منه قذيفة لتدمر حجرة التفتيش بمن فيها من حراس ليقضي عليهم حتى قبل أن يتمكنوا من الخروج منها ومواجهته،ثم اتبعها بقذيفة أخرى نحو البوابة فجعلها أثرًا بعد عين،ضغط بعدها على زر المفجر فبدأت الانفجارات تتوالى، وانطلق إبراهيم مبتعدًا عن الموقع،وقاصدًا في الوقت نفسه المبنى الآخر الذي اقتيد إليه معصوب العينين.

هبطت بعد قليل طائرة هيلوكوبتر على مقربة من المبنى الذي تحول إلى كتلة من النيران،والانفجارات تصدر منه تأبى ألا تدع منه جزءًا قائمًا،خرج من الطائرة مدير المشروع ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية الذى ألقى محاضرته الأخيرة فى قاعة الاجتماعات قبل ساعات قليلة،شاهد وهو يميز من الغيظ  المبنى يتحول إلى قطعة من اللهب" شكي كان إذًا فى محله، إنه الرجل الذي أعلنت الصحف المصرية عن مكافأة للقبض عليه، لذا أصدرت الأوامر بتصفيته،لقد ظننت أنه قُتل بالفعل،كيف أقع في مثل هذا الخطأ؟ لم أشك أبدًا فى أمرٍ وتركته معلقًا أو فى شخص وتركته حيًّا،المرة الوحيدة التى خالفت فيها ظنوني حدث كل هذا،لقد نجح فيما جاء لأجله،أعمى أنظارنا وأصم آذاننا بتدمير هذا المبنى،ولكن أين هو الآن؟وإيلام يخطط؟أيستهدف مركز الدراسات الاستراتيجية؟ لو ألحق ضررًا بهذا المبنى لقضى على سنوات طويلة من العمل الشاق.

كان غباءً منا أن ندخله المبنى حتى وهو معصوب العينين،سأقتلك أيها المصري بيدى هاتين!"

 عاد إلى الطائرة وأمر قائدها بالتوجه على الفور إلى مبنى الدراسات الاستراتيجية المنوط به عمليات التجسس،فى الطريق تلقى من مسؤول الأمن عن المبنى ما يفيد أن المبنى قد تم اختراقه مما زاده حنقًا، هبطت الطائرة في المهبط فوق المبنى وخرج مدير المشروع منها،يحث الخطى العرجاء،كان مسؤول الأمن فى انتظاره، سأله :

- أين هو الآن؟

- فى غرفة التحكم .

أشار بأصبعه أن يتبعه،أمر مسؤول الأمن  جميع القوات العاملة  فى الموقع بالتوجه إلى غرفة التحكم حيث تم تحديد موقع إبراهيم، اقتحموا الغرفة من جهات عدة،وجدوه جالسًا فى هدوء أمام أحد أجهزة الكمبيوتر يمسك بمفجر في يده،ومن حوله التراب الذي حمله معه من أرض مصر،منعهم التراب أن يقتربوا منه ظنًا أن هذا التراب يحمل موادًا إشعاعية قاتلة أو غيرها من المواد الخطرة، لم يتصوروا أنه مجرد تراب عادي حمله معه مصري مولع بتراب وطنه إلى هذا المكان البعيد كل البعد حتى إن مات أو قتل شعر أنه يحمل شيئًا من رائحة الأرض التي قضى جل عمره مدافعًا عنها، بادره الصهيوني بالسؤال:

أتنوي تفجير المبنى حقًا؟

ومن في المبنى.

هكذا هي عقلية العربي،يدمر كل شيء في طريقه دون أن يفكر إذا ما كان الأمر سيعود عليه بنفع. أم ينقلب عليه بضرر.

يكفي ما أراه في عينيك الآن من رعب خوفًا من تفجير المبنى وتدمير كل ما فيه. 

يضحك الرجل في محاولة لتشتيت إبراهيم:

حتى وإن فعلت فلن تفجر إلا ما تراه عيناك، وهو قليل بل أقل مما تظن.

أتقصد أن هناك ما أراه بعيني ؟

    - أؤكد لك أن ما لا تراه أكبر وأعظم مما يمكنك تخيله، ولن يستطيع أي مخلوق مهما بلغت به من قوة أن يمسسه بسوء أو حتى أن يقترب منه.

رمق إبراهيم الرجل بنظراته محاولاً أن يكتشف إذا ما كان صادقًا أما كاذبًا، واصل الرجل  بالقول:

خذ عندك  هذا المبنى مثلاً على ما يضمه من أجهزة تنصت وتجسس تراقب كل ما يجري على ظهر الأرض مثالاً،إذ يقبع أسفل منه عميقًا في باطن الأرض مبنى بديل محمي حماية فائقة،إن توقف هذا المبنى عن العمل لأى طاريء أو حتى تم تدميره تتحول كافة العمليات تلقائيًا إلى المركز البديل تحت الأرض. 

    - هذا يعني أنكم تملكون البديل لكل شيء؟

      - أجل لدينا خطة بديلة لكل ما نقوم به.

       - والهدف؟

    - إقامة مملكة الرب في الأرض التي وعدنا بها.

  - وكيف يتحقق ذلك ضد إرادة شعوب الشرق؟

  - وضعنا مخطط لكل صغيرة وكبيرة،وندرك جيدًا أن تحقيق الهدف لن يكون إلا على أشلائكم وتدمير بلدانكم أو جعلها خاضعة لنا،ولكن براعة المخطط تكمن فى أننا لن ندمر بلدانكم بأيدينا ولكن بأيدي أبنائه.

    - تقصد من خلال الجماعات الإرهابية التى تجندونها وتدعمونها وتمدونها بالأموال والسلاح ؟

  - الإرهاب ليس إلا مجرد كارت صغير،هناك كروت أخرى كثيرة أهم.

  - وما هى الكروت الكبيرة التي تعولون عليها لتحقيق هدفكم؟ 

- نحن نستخدم كل ما تحسبونه مصدر قوتكم ضدكم، فالبترول مصدر الثروة لديكم سنحوله ليكون نقمة عليكم،والأرض الممتدة من الخليج إلى المحيط سنفتتها إلى كانتونات صغيرة متصارعة فيما بينها وسنخنقكم داخلها حتى لتضيق عليكم الأرض بما رحبت،أما شبابكم الذين تفاخرون على الدوام بأنهم عماد مستقبلكم فسوف نفرغهم داخليًا من كل المبادئ والقيم حتى يصيروا كغثاء السيل،ونملأهم بالغضب والنقمة حتى يثوروا على كل شيء ويحطموه فى طريقهم،لكن أهم ما في المخطط أننا سنزرع في كل موقع حساس فى بلدانكم رجالاً يدينون لنا بالولاء، مهمتهم الرئيسية نشر الفشل حتى يعم اليأس والإحباط فى نفوس الشعوب وينتهي بكم الأمر إلى الخضوع لنا .

طبع ابراهيم على شفتيه ابتسامة ساخرة :

  - لو أنك فكرت لحظة فى كيفية وصولي إلى هذا الموقع وتمكني من اختراق كل التحصينات الأمنية المزود بها  لأدركت ما غاب عنك.

   - خطأ سيتم تداركه ولن يتكرر مرة أخرى، الفارق بينا وبينكم أننا نتعلم من أخطائنا أما أنتم فلا تتعلمون أبدًا.

  - عندما أعود إلى أرض الوطن سأطلع كل امرأة وكل رجلٍ وكل طفلٍ على حقيقة مخططاتكم.

ينفجر الرجل في الضحك:

   - أتحسب أنني كنت سأطلعك على كل هذه المعلومات الخطيرة لو أن هناك احتمالاً ولو بلغ واحدًا فى المليون أنك ستعود.

 - ما دمت أقبض على  سلاحي في يدي يبقى كل شيء رهن إرادتي .

 قالها إبراهيم وهو يرفع سلاحه بيمينه بينما يضع إبهام يسراه على زر التفجير،استدار الرجل وعلامات الحنق تجتاح وجهه لأن كلامه الذى هدف من ورائه أن يدفع إبراهيم إلى الاستسلام دون إبداء مقاومة لم يؤت ثماره المرجوة، وواصل إبراهيم حديثه :

  - كلمة أخيرة أود أن أبلغها إلى قياداتك الذين لا أشك أنهم يستمعون إلينا الآن،أنا مقاتل مصري جتئكم بمفردي،فما بالكم وهناك عشرات الآلاف من المقاتلين ممن هم على شاكلتي؟

رفع الرجل يده آمرًا القوات المصاحبة له :

 - تعاملوا معه!لا أريد أن أسمع مثل هذا الهراء!

لم يمهله ابراهيم وأطلق رصاصة لتستقر فى مؤخرة رأسه،ثم طار من مكانه في نفس اللحظة متجنبًا سيل الطلقات  التى انهمرت صوبه،ضغط على زر التفجير فتوالت الانفجارات التي اهتز لها المبنى من أساساته،وتبادل إطلاق النيران مع قوات الاقتحام داخل الغرفة الممتلئة بأجهزة الحاسوب الآلي،يتنقل من صف إلى آخر، متأخذًا من الأجهزة وحواملها ساترًا له، لا يكف عن مبادلة مهاجميه إطلاق النيران فيما يردون عليه بكثافة،لاح له باب القاعة على الجهة اليمنى فانطلق نحوه إلا أن طلقة أصابته في كتفه،لحقت بها طلقة أخرى أصابته في فخذه سقط لها أرضًا خرج رجل الأمن الذي أطلق على إبراهيم الطلقة الأخيرة من مخبأه والدماء تغطي وجهه،صوب فوهة سلاحه الآلي إلى مؤخرة رأس إبراهيم منتويًا أن يطلق عليه طلقة لتقضي عليه لولا أنّ صوتًا جاءه آمرًا عبر السماعات في أذنيه: 

     - لا تقتله ! نريده حيًا !نريده حيًا !

    - لكن التفجيرات تجتاح المبنى وقد لا نخرج من هنا أحياء .

     - أفعل كل ما يمكنك أنت وزملائك للإبقاء عليه حيًا !

عندها أبعد فوهة سلاحه عن رأس إبراهيم،لكنه هوى بمؤخرة السلاح عليها فى ضربة تحمل كل ما فى صدره من غلٍ،غاب ابراهيم على أثرها عن الوعي،أعطى بعدها إشارة إلى زملائه ممن بقوا على قيد الحياة فحملوا إبراهيم واتجهوا عبر ممر الطوارئ إلى سطح المبنى حيث نقلتهم الطائرة الهليكوبتر بعيدًا عن المبنى الذي أتت عليه النيران وجعلته أثرًا من بعد عين.

**

عمرو زين