د. أحمد مستجير : ماذا فعل العَالِــمُ في جوع العالَــــمِ ؟
يونيو 28, 2025
كتب إبراهيم حمزة
" قبلنى والدى واحتضننى ، والدتى تبكى ، حملت حقيبتى الصغيرة وخرجت ، كنت قد عُــــينت بالإصلاح الزراعى .. فجأة شعرت أنى وحيد . أواجه العالم الآن وحدى . خوف غريب تملكنى ،ها أودع الآن عالما كان جميلا شغلته فى الصبا "
هذه لحظة عاشها واحد من أكبر علماء العرب ، وأحد أبرز دارسى الهندسة الوراثية ، يصور بها انتقاله من حال إلى حال وقت تم تعيينه لأول مرة بالإصلاح الزراعى ، بقرية صغيرة قريبة من بلدته بدكرنس محافظة الدقهلية . وقد ظل من مولده أول ديسمبر 1934م وحتى وفاته فى 17 أغسطس 2006م يحمل هذه العاطفية المذهلة فى أرقى تجلياتها .
موعد مع الموت :
يتذكر وقت أن كان تلميذا صغيرا بمدرسة المطرية دقهلية الابتدائية ،وكان مدرس اللغة الإنجليزية قد عنّف طالبا وقال له (روح موت) .. اختفى التلميذ الصغير ثلاثة أيام ،وبعدها مات الفتى ،وحزن الطفل مستجير ،وقرر أن يكتب رسالة إلى رئيس وزراء مصر أحمد ماهر باشا ،يتهم الأستاذ بقتل الطفل ،هذا الحس الإنسانى لم يفارق عالمنا الكبير ،حين عمل بالإصلاح الزراعى ، كان يطوف بالحقول ، على الأطفال الذين يجمعون القطن ،يسألهم عن أسمائهم ،وصادف أن رأى فتى يحمل اسم أعز أصدقائه ، فعطف عليه ، وأعطاه قرشين ، وبعد أيام يصل مفتش من العاصمة ، ويعنفه على فعلته ( هذا لا يصح ، لابد أن يخشاك الناس ، لا يجوز أن يحسوا أن لك قلبا رحيما ) .
****
تأتى محنة المنحة إلى أدنبرة للدراسة ، وقد واصل مستجير اهتمامه القرائى بعلوم الوراثة ، فعلم بوجود عبقرى اسمه آلان روبرتسون ، راسله مستجير ، ووافق الرجل على إلحاقه بمعهد وراثة الحيوان ، جامعة أدنبرة باسكتلندا ، جامعة عريقة أسسها الأسقف روبرت ريد سنة 1583م ، ولعبت دورا تنويريا طيبا ، وصل إلى أدنبرة ، والتحق بالمعهد ، وتفوق ، وانتهت المرحلة الأولى بأستاذه وهو يقول له أنه قرر للمرة الأولى فى تاريخ المعهد أن يمنحه شهادة الامتياز .
ـ فى صحبة ذبابة :
كانت دراسته للدكتوراه بإشراف روبرتسون ، بدأ العمل فى أكتوبر1961م واختار موضوع "عدد الشَّعر على جانبى حشرة ذبابة الفاكهة الدروسوفيلا" حيث سعى لمعرفة الجينات ذات الأثر الأكبر فى هذه الصفة ، ومواقعها على الكروزومات ".
أهم ما فى هذه الفترة أنه تعلم المناقشات الحرة الحيوية الذكية ، ويعرض لأحد العلماء الذى قدم معادلة مبهرة أقنع الجميع بسلامتها ، ثم قام أستاذه روبرتسون بالتعليق على المعادلة مبينا فى تواضع وبساطة كونها خاطئة ، وقد اقتنع الجميع بمن فيهم صاحب المعادلة نفسه ، ويروى مستجير أن معادلة حيرته ، فلجأ لأستاذه ، الذى عاد بعد يومين بحل للمعادلة ، فقال له مستجير بأنه توصل لحل مختلف ، وعرضه عليه فقال روبنسون : أنا لا أفهم هذا الحل . وبهر مستجير من تواضع هذا العالم ، خاصة حين طلب منه إدراج حله الشخصى للمعادلة فى رسالته للدكتوراه ، وبعد مناقشة الرسالة جاء أستاذه يهنئه على آدائه الرائع أثناء المناقشة .. فهل هناك أجمل من هذا الأستاذ وهذا التلميذ ؟!
ـ مستجير فى مصر :
يعود مستجير إلى مصر ، يعمل مدرسا بكلية الزراعة جامعة القاهرة عام 1964م ثم يترقى لأستاذ مساعد عام 1971م ،ويستمر حتى يصبح عميدها من1986م حتى 1995م، ثم عين أستاذًا متفرغًا بكلية الزراعة جامعة القاهرة منذ 1995م وحتى وفاته عام 2006م . ويدخل مجمع الخالدين عام 1994م ليحتل كرسى الدكتور محمد الطيب النجار الذى خلا بوفاته ، ويقدم مستجير جهدا جيدا فى تطويع اللغة العربية لمقتضيات العلم ، خاصة فى المصطلحات العلمية فى مجال الاستنساخ والوراثة ، كان عضوا بلجنة مصطلحات علوم الأحياء والزراعة التي كان مقررًا لها. لكن سعيه التطبيقى هو الأهم فى تاريخه ، فقد كان يؤمن بالعلم وسيلة لإسعاد البشر ، ومدهم بحاجاتهم الأساسية ، يقول فى مقال له بعنوان " التكنولوجيا الحيوية " : مازلت أذكر ذلك اليوم تفصد فيه العرق من جبينى ، واهتز جسدى وانتفضت ، وصرخت بأعلى صوتى : حرام حرام ! كنت أشهد على شاشة التليفزيون أطفالا أفارقة تحولوا بفعل الجوع إلى هياكل عظيمة ، هياكل حقيقية ، وكانت عيونهم تنظر إلى شخصيا ، وكأنها تقول فى خضوع ومذلة : لقمة يا سيدى ، ألسنا إخوتك فى البشرية ؟ .. خرجت وسرت طويلا طويلا والحزن – كما يقول صلاح عبد الصبور – يفترش طريقى ، عاد إلى ذاكرتى قول الشاعر وليم بليك :
" فى كل ليلة وفى كل صباح
يولد البعض للشقاء
فى كل صباح ، وفى كل ليلة
يولد البعض لليل طويل بلا نهاية "
فقد أسس أول مدرسة عربية لاستنساخ الخيول العربية الأصيلة من خلال فريق بحثي رأسه في كلية الزراعة بجامعة القاهرة بهدف رفع نسبة الإنتاج إلى 15% خلال ثلاث سنوات . ، وقد سعى لاستنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل ملوحة المياه والجفاف، من خلال التهجين الخضري مع الغاب لقمح هجين يتم ريه بالماء المالح، لكن التجربة لم تلق اهتمامـًا حقيقيـًا من قِبل المسؤولين بالدولة. وكان من مقترحات "مستجير" أيضًا إثراء الفول البلدي بحامض الميثونين الأميني؛ لتقترب قيمته الغذائية من قيمة اللحم، وكذلك إدخال جين مقاومة فيروس الالتهاب الكبدي -وهو المرض المنتشر في مصر- إلى الموز، وكثير من الأبحاث الرائدة .
ـ الأسلوب .. كل شىء :
كتب مستجير عدة كتب تعليمية منها " مقدمة في علم تربية الحيوان" و" النواحي التطبيقة في تحسين الحيوان والدواجن وغيرهما ، وقدم ترجمة رصينة لما يزيد عن ثلاثين كتابا منها "قصة الكم المثيرة " و" المشاكل الفلسفية للعلوم النووية " و" اللولب المزدوج " والذى شاركه د. محمود مستجير فى ترجمته ، الربيع الصامت ، صراع العلم والمجتمع وغير ذلك ، كما قدم ديوانين من الشعر هما : عزف ناى قديم ، و" هل ترجع أسراب البط " فضلا عن عدة كتب علمية مميزة ، منها : فى بحور العلم ، دفاع عن العلم ، البيو تكنولوجيا فى الطب والزراعة ، قراءة فى كتابنا الوراثى ، القرصنة الوراثية ، علم اسمه السعادة ، علم اسمه الضحك ، وكان آخر كتبه فى سلسلة اقرأ بعنوان " الثورة البيولوجية " فى مارس 2004م ..
ما يجمع كتاباته جميعا فى كافة مجالاتها أنه يكتب أولا فيما يفهمه جيدا ، وربما شعر قارىء كتابيه فى العروض – موسيقى الشعر – بمدى سيطرته على الفكرة ، حيث قدم دليلا على إمكانية "رقمنة " علم العروض ، وشرح الفكرة فى كتابين كاملين بشكل مقنع ، ورد بحكمة وخلق على معارضيه ، إنه عالم فى رداء أديب ، وأديب سرقه العلم ، وقد مالت اختياراته فى الترجمة لما يؤكد ميله الإنسانى والأسلوبى القائم على زفاف العلم للأدب ، حيث اختار – على سبيل المثال – كتاب "اللولب المزدوج " للعالم جيمس واطسون وقد أدهش مستجير فى المؤلف أنه يرى العلم مجرد محاولة بشرية يقوم بها بشر ككل البشر ، يقول واطسون فى الكتاب أيضا : لا يمكن أن تصبح عالما ناجحا دون أن تعرف أن عددا كبيرا من العلماء ليسوا فقط بلداء ، ضيقى الأفق ، وإنما أيضا أغبياء " صـ 31
ويصور واطسون طريقة أحد زملائه بالمعمل قائلا : ألقى بولنج حديثه كعادته بطريقته الدرامية ، لقد كان بعض زملائه ينتظروت اليوم الذى يسقط فيه على وجهه عندما "يطصلق " شيئا هاما " صـ 55 انظر لشجاعة المترجم فى اختيار لفظ غير فصيح (يطصلق ) لأنه لم يجد أنسب منه ، رغم أنه عضو بمجمع اللغة العربية .
ولهذا يختار منهج إيرفين شارجاف صاحب كتاب "نار هرقليطس : فصول من سيرة حياة فى حضرة الطبيعة " والكتاب منشور عام 1978م ، لقد أدهش الرجل مستجير حين قرأ قوله : ( عندما تحيله الجامعة إلى التقاعد ، فهى ترسله لإعادة التدوير for recycling )
ويقول شارجاف أيضا ( لا أحد يكتب الآن ، من يكتبون لا يشبهون إلا كلاب بافلوف ، سوى أن لعابهم يسيل دون أن يسمعوا الجرس ، اللغة هى الموهبة الغامضة التى تميز الإنسان عن الحيوان ) .
كانت وفاته أيضا تحمل كما من الإنسانية العاصفة التى ميزت حياته ، فقد أصابته جلطة شديدة بالمخ وهو يشاهد المجازر الوحشية والدمار الشنيع الذي ارتكبته إسرائيل في لبنان وفلسطين. لم يفارقه مطلقا حلمه وظل يتساءل عبر قصائده :