في سيميائيّة الكذب والسّرقة(4)

الكذب والسّرقة من الوثنيّة إلى السّماويّة ..فيمابين الفكرة والواقع





 

محمّد خريّف*

كاتب وناقد  من تونس 

ليست العَقيدة باِعْتبارها نشاطا سيميائيّا سوى فِكْرة تدّعي تمثيل الوُجود الطبيعيّ بالتسمبة أي بالوَسْم الذي يُحَاوِل به صانِعه الإنسان سواء أكان مُفردا أوْ جمْعا أن يمسخه طمعا في السّموّبه او التعالى به عن جسده الواقع بغاية تحويله إلى جسد فكرة والجسد الفكرة أو الإنسان الفكرة يختلف عن الإنسان الواقع كما يختلف القطّ الفكرة عن القط الواقع عند بلانشو.

هذا وَتختلف تبعا لذلك السّرقة الفكرة وأداتها الكذب الفكرة عن السّرقة الواقع والكذب الواقع ،لكنْ، وبما أنّ العقيدة باعتبارها حالة وضع في حالة فكرة متمكّنة بيقينيّة المُصادرة والتّكراروأساليب الخطابة الطلبيّة ، فإنّها تقوم في الضّمائر ببلاغة الإقناع والاقتناع القائمة مقام الضمير الجمعيّ الفاعل في النفوس تحت ضغط يجعل التصديق أو التسليم الماقبلي الذي هو من شروط الإيمان يصير فريضة واجب دينيّ اِستجابة لما يقتضيه طبع الإنسان في الكون المُبْهم من حاجة إلى الطّمأنينة النفسيّة -وإن كانت وقتيّة وهميّة زائفة- لذلك كان للعقيدة من لُزوم ما لا يلزم ما به تُمَثّل في الذّهن وتجسّد بخدعة اللغة وإن بدت لبعضهم ثابتة منزّلة بتدبير فوقيّ يعلّم الله بمقتضاها آدم الأسماء كلّها في غفلة عن التحوّلات الحاصلة في مفاهيم علوم اللسان والعلامة التي تُبطل نظريّة التوقيف اللغويّ وتجعل العلامة ماحية للأشياء لا معبّرة عنها أو مميّزة لها أو حتّي مثبتة لها.

 وهو تحوّل يقع على اِمْتداد قُرون من قول على قول بفعل جهاز التصويت عند الإنسان الذي لا يعرف التوقّف عن التفريخ الاستعاريّ المتداخل اللقيط الذي لا يركن لجُمود التوقيف النظريّ للنحو التقعيديّ ولا لهويّة الحالة المدنيّة ، شأنه شأن العلامة الطبيعيّة الفيزيائيّة وشيمتها الحذف مايجعلها لا تمكّن راسمها من توقيف أو من ظفر بسيطرة مّا على ما يتوهّم رسمه أو وسمه لتحديد ماهيته ،ومن ذلك يكون الوعي بالمُفارقة عند السّيميائيين بين ما نعتقده بإرث التلقين من صَواب العقيدة وما يٌرْبكنا ويٌخَلْخِلٌ فينا صرامة الإيمان بصلاحيّة العلامة وهي الكلمة اللسان باعتبارها اسما وفعلا وحرفا في العربيّة مكوّنا أساسيّا من مكوّنات الكلام المٌفيد المتماهي مع كلام الإعجاز عند الفقهاء الغٌرباء عن السّيميائيين المُحدثين القائلين بفراغ العلامة وهشاشتها .

وهي عندهم غير أساسيّة ولا ضروريّة ولا دور لها سوى وضع الإنسان باعتباره ماكينة كلام في حالة إرْبَاك دائم لا طمانينة له ، وعِلْمها علم إثارة الدّهشة نتيجة الوعي السّيميائيّ المٌفارق بعجزالعلامة في معناها المطلق عن تبليغ الفكرة وهو وعي بوُجود تحوّلات فكريّة وليدة إرهاصات فلسفة العلامة خارج منظومة الانسجام القسريّ ما يجعلها خارج منظومة الاختلاف حيث السّلب والإيجاب والانفصال والاتصال ما يجعل علاقة الباحث في أمر الكذب والسّرقة باعتباره علامة أمرا منبوذا في العقيدة أوَثنيّة كانت أم سماويّة في علاقة شبيهة بعلاقة القط الفكرة التي تختلف مع القط الواقع في الكلام الأدبيّ .

  وهي علاقة قابلة للهدم ووهم البناء ، إذ لها أن تكون في نفس الوقت مغرية بتوليد الأفكار وقتل لأفكار متحولة بعدوى الوسم السّيمائيّ الماحي وسبيله عنف التسمية أداة تعقيم لكلّ ما هو طبيعيّ في الكائنات للفصل بينها وبين حياتها الطبيعيّة فيغيب واقع الواقع ويحضر واقع الفكرة المهمّش لكل ماهو طبيعيّ فيمّحي من الأشياء كلّ مايمتّ لخواصّها الطبيعيّة من صلة واقعيّة فتكذب بذلك التسمية وتسرق كذب امتلاك الفكرة وسرقة الفكرة وبالتالي ادّعاء اِمْتلاك العقيدة وسرقة العقيدة عن طريق الحجاج بالخوارق والمُعجزات.

 وهل من أسبقيّة لهذه العقيدة على تلك العقيدة خارج ثنائيّة الكذب والسّرقة باعتبارهما علامتين مسكوتا عنهما ؟ ولنا في نماذج من ادّعاء التفرّد بالتنبّؤ بدين وثنيّ أو سماويّ دون دين ما يدفع إلى السّؤال عن وجوه الشبه الحاصلة بين ماهو وثنيّ وماهو سماويّ وكلاهما فكرة لا واقع ؟ فالوثتيّة فكرة لاواقع والسّماويّة فكرة لا واقع أيضا ، وَإذ الوثن الواقع غير الوثن الفكرة وكذلك السّماءالواقع غير السّماء الفكرة ، وهكذا تكون "الوثنيّة" ومنها البوذيّة والزّرادشتية أفكارا لا واقعا ،والفكرة لغة تقتل الواقع ولا تُحْييه عكس ما يّدّعي فُقهاؤها الذين يرون في الأفكار ومنها العقا ئد سبيلا للخروج من "الظلمات إلى النور"،لذلك كانت الدّيانات الوثنية والزّرادشتيّة وبعدها الدّيانات ا"السّماويّة" وما لف لفها من شتات الفكر والنّحل والبِدع شارة سحابة خلّب تدعو إلى إتباع الصّراط المُستقيم عن طريق الدّعاء والابتهال باللغة واشارات الركوع والخنوع في وقارالسّجود لاستبدال الإنسان الجسد بالإنسان الفكرة لشحنه بقيم الخير وفراغه أي تطهيره من ذرّات الشرّ وأدرانها ، ومن أدران الشرّ الكذب والسّرقة وهو شرّ منبوذ من تشريعات الأديان وتوصياتها .

لكن بعيدا عن التصنيف المذهبيّ للعقائد و أحسبه من عمل التسميّة الماحية القاتلة يمكن النظر المختلف في التحوّل المزعوم من محسوس الوثنيّ إلى تجريد السّماويّ ومنه يٌطْرَحٌ سٌؤال سيميائيّ حول القطيعة بينهما ولا قطيعة غير قطيعة فكرة لا قطيعة واقع إذ في الوثني ماهو من السّماويّ ومن السّماويّ ماهو من الوثنيّ ، والمسألة علاماتيّة بالأساس ، إذ للعلامة أن تربك فتجعل الأمر"بين بين" فلا هي العلامة بقادرة على تحديد الوثنيّة ولا هي بقادرة على تحديد السّماويّة .

ولعلّ العلامة لم تعد بالتسمية اعتباطيّة فحسب بل قاتلة أي فاصلة الإنسان عن واقع وجوده الطبيعيّ أي عن حياته حيث يُحرم يغيّب جسمه الواقع من حريّته الطبيعيّة فيغتصب ليغدوَ فريسة نهب لجدل الأفكار العقيم حول الجزاء والعقاب ومحن عذاب القبر فالصّراع العقائديّ بين أنصار "شعب الله المختار" ومريديهم و أنصار"أحسن أمة أخرجت للناس" ومريديهم وما إلى ذلك من أوامر ونواه ومن الأوامر والنواهي ما يتعلّق بالكذب والسرقة باعتبارهما فكرة لا واقعا.

#نقاش_دوت_نت