في سِيميَائيّة الكَذب وَالسّرقة..مِنْ فِقْه اللّغة إلىَ فَلسفة العلامة
مايو 11, 2025
محمّد خريّف *
إنّ الْمُرورَ من التّفكير النحويّ أو البلاغيّ في نِطَاقِ مَايُعْرف ب" فقه اللّغة" إلى التّفكير السيميائيّ في مجالات مايُعرف ب" فلسفة العلامة" لا يُمكن له أنْ يُنْجَز أو يَكُونَ دون المُرور بمراحل التّفّكير المٌفارق الخاصّ بعلم اللّسان ومشتقاته، فمُبتكراته المُؤدّية إلى التحرّر من هيْمنة الجانب الأخلاقيّ على التفكير الموضوعيّ في مسألة "الكذب والسّرقة" باعتبارهما ظاهرتيْن إنسانيّتيْن وجوديّتين، قد لايُعرف لهما تاريخ محدّد أو جغرافيا محدّدة.وان كانتا تُعدّان في فقه اللغة من عمل الشيطان الرّجيم ينهى عنهما الله ويحذّر الإنسان من مغبّة ارتكابهما.
هذا الاِعتقاد السّائد مُنذ الدّيانات القديمة ومنها الدّيانات الزرادشتيّة واليهوديّة فالمسيحيّة والإسلاميّة ،تطبّع به فقه اللّغة في جميع فروعه ومجالاته بطباع فُقهاء العقيدة فعُدّ كل من الكذب والسرقة أمرا منبوذا إلاّ بشروط وهما من الخطايا والكبائر يُعاقب الله مرتكبيهما يوم القيامة.هذا ولم تكن دراسات فقه اللغة في العربيّة نحوا وصرفا وبلاغة بمنأى عن التّأثر إلى حدّ كبير بعلوم فقه الحديث والسنة على أساس أنّ السّرقة والكذب يعدّان من العقبات التي تعوق الباحثين الساعين إلى أدراك سبيل الصدق و إعطاء لقيصر ما لقيصر ،فيظلّ ديْدن فقه اللغة ومبتغاه هادفا إلى نيل رضاء الخالق ومن مظاهره إفناء العُمر في الحِجاج على صدق البيان وأساسه القرءان بما تتطلبه دراسة اللغة من واجب خدمة الدّين والعقيدة في ظل الشريعة وما تقتضيه من دلائل الإعجاز، لذلك كادت الدراسات اللغوية العربية أن تظل على ماهي عليه لولا تأثر تلك الدراسات الخاصة بعلم اللسان الحديث بوصفه علما مستحدثا يقطع مع مباديء فقه اللغة على أساس أن علاقةالدال بالمدلول في اللغة اعتباطية لاتوقيفيّة حسب نظريّة دي سوسير التي قلبت المفاهيم التقليدية لعلم اللغة الفقهي وعوضتها بمفاهيم حديثة لعلم اللسان الحديث ومنه علم العلامة الأوسع الذي يجعل العلامة قابلة للدراسة العلمية بمنأى عن التأثر بفقه اللغة الخاصّ بلسان دون آخر وبدين دون آخر حيث يتحرّر علم العلامة من تراكمات الماهية اللّسانية فينفتح المجال لدراسة العلامة في معناها الواسع المعروف بعلم السّيميائية الحديث المستنبط من الوعي بمفارقات تجارب فلسفة علامة الاختلاف ومن روادها دريدا ومن لف لفه ممن يرى أن العلامة فارغة وليست أساسية لذلك تحوّلت دراسة الكذب والسرقة من دراسة فقهية أخلاقية إلى موضوع دراسة علاماتيّة علميّة فيزيائيّة جديرة باهتمامات النقد السّيميائي الحديث و المعاصر ومن وجوهه بارت وأيكو وغيرهما، إذ لم يعد مبدأ الإسناد المفيد في التحليل الأرسطي أساس الدراسات اللغوية لاسيّما مع تمرّد الايطالي فيكو على المنهج التحليلي. ولعل الاطلاع على تخريجات امبرتو ايكو ودريدا وبارط وغيرهم من السيميائيين المتمرّدين المحدثين يُغْري بطرق موضوع الكذب والسرقة وتحسّس طرائف البحث فيه حسب منطق مفارق مختلف يجعل موضوع الكذب والسّرقة محلّ اهتمام الباحث السّيميائي خلافا لما تعوّدنا عليه في المباحث التقليدية ونحن في الطريق إلى ما نسعى إليه من اجتهاد لايخلو من مغامرة البحث في موضوع قد لا تكون نتائجة مضمونة التحديد و وله من الذرائع ما يحفزنا على البحث في المسألة.
الكذب والسّرقة بحثا مفارقا غير منسجم مع منطق ترذيل الكذب والسرقة ذلك المنطق السائد الساذج الذي لايُبيح الدراسة السّيميائيّة للكذب والسّرقة باعتبارهما مظهرا من مظاهر الوُجود الطبيعي لا الماهية الميتافيزيقية التي حكم منظروها على الدنيا بأنها " دار باطل" كما حكمواعلى الآخرة بأنّها " دار حقّ" ، فكأن بذلك لمفهوم الحياة أن يظل مقترنا بهذه العلامات الفارغة المشحونة بمايملؤهاأو لايملؤها من انشاء صانع العلامات ، وماصانع العلامات الاالإنسان البيوسيميائيّيكتشف أسرارها بالتجريب والمحاكاة الفطرية التي جعلته ينسبها إلى غيره من قوي الغيب ومنها الميني للمجهول القائم مقام الخالق الاعظم لمواجهة عجزه الوجوديّ وما الأمر إلاّ متعلق بقدرة الباحث وإمكانيته العلاماتيّة متعاضدة مع غيرها من العلامات الكاذبة لصناعة مفاهيم افتراضيّة أخلاقيّة اجتماعية أو دينية لاهوتية تتخذ شكل يقين الآيات منزّلة بسلطان التسليم والقبول العقائديّ، ومن ذلك التذرّع بذرائع وجدانيّة مفهوميّة تظل مشاريع إيديولوجية مستقبلية وهميّة منها مشروع الحق أو خلافة الحق في مقابل رفض ما يُعرف وهما بواقع الباطل أو دار الباطل وما تقتضيه ألأصول الفقهيّة ، هذا ومامفهوم الباطل إلا شبيه بمفهوم الحقّ ضروريّ لاستمرار الحياة عند البشر في علاقة بمحيطها سواء أكان حيوانا أوجمادا، والمفهوم متحوّل لأنه لايقينيّ وغير ثابت متى اقترن بمفهوم العلامة الفارغة وقد لا يملأها صانع الكلام ألا وهو الإنسان إلا بمفهوم ثنائية الكذب والصدق ذلك المفهوم الذي به يشرّع لعلاقة اعتباطيّة بين الدّال والمدلول لولادة طبع جديد ألا وهو طبع الرّواية الكاذبة لا طبع الآيةّ "الصادقة المنزّلة"، وماطبع الرّواية الكاذبة سوى طبع الحديث المُرجّم حديث سوء النيّة يناقض طبع الآية طبع حسن النية، والكذب كذبان كالسرقة سرقتان. كذب منبوذ وكذب محمود، كذلك السّرقة سرقة محمودة وسرقة منبوذة ،وماهو منبوذ من السّرقة أو الكذب كل كذب أو سرقة نهت عنها أكاذيب كبرى مرتبطة بسرقات علاماتيّة كبرى وردت أخبارها في دواوين الأشعار والكتب السماوية وأحاديث السير والأمثال والنوادر والمقامات والقصص والروايات ،ومن الأكاذيب والسرقات العلاماتيّة الكبرى و ما صيغ منها من مختارات في كتب ومعجزات اتخذت شكل البدع والأساطير ومنها أساطير اللاهوت والميتافيزيقيا الإلهية
ولنا في أخبار السّرقة والكذب ما يشبه في تاريخيته وجغرافيّته أخبار الكذب والسرقة في توظيفها من أجل التأديب للاعتبار والاتعاظ أملا في تنشئة الأحداث على طباع الصدق في القول وإعطاء لقيصر ما لقيصر.
لكن مَا السّرقة ؟ ومَا الكذب؟ ومَا الخبرفي علاقة بالرواية والحديث.