يحيي الطاهر عبدالله . . ملك القصة القصيرة المتوج.
30إبريل ١٩٣٨/ ٩إبريل 1981.
من أجمل كتابات الرثاء في نظري في الكتابة التي قرأتها . وأجمل ما كتب في رحيل يحيي الطاهر عبد الله نص "دقات جنائزية علي دفوف الستينات "لصلاح عيسي "رحمه الله هو ويحيى ونشر في عدد مجلة خطوة الخاص الذي صدر عقب وفاة يحيي . ثم أعاد الأستاذ صلاح نشره في كتابه الضخم "مثقفون وعسكر" وهو أحد أهم كتبه بما يضم من نصوص ومشاهدات عن مأساة المثقف المصري وتمزقه منذ ٢٣يوليه ١٩٥٢ .
هذا مقطع من هذا النص البديع .. واقرا وتأمل وترحم .
***
مات الطاووس المشاغب، أمير الحكى ونديم الحى، المتقمص العظيم، المتلون كالطيف، المتعدد كريش الطاووس، الغماز، اللماز، الهجاء، الغضوب، المتشاجر مع ذباب وجهه، طفل البرارى، ابن الموت الذى عمل لدنياه كأنه يموت غداً، كانوا قد ذهبوا بالمشاعل وحين تقدمت إلى القبر كان إسكافى المودة ينتحب فى الظلام، سألته: - ألا يأتى على هذا الوطن يوم نجد أمامنا خياراً رابعاً غير الموت والهجرة والزنازين؟!. من دنيا السوق أنا قادم، بصحبتى شهودى، أسماء الطوق والأسورة وأسماء ابنتى، وأسماء أمى، وأسماء بنت أبى بكر، وسميى سيئ السمعة عبدالفتاح يحيى باشا بطل الانقلاب الدستورى، ورأس يوحنا المعمدان، وشاهد من جيلى كلمته نصف نصف اسمه صلاح عيسى. حين كان الزمن حرباً ولدنا، فدونوا فى خانة الظروف المخففة أننا من جيل كان رضيعاً يوم خرج آباؤه يسألون عن الخبز، ويرحبون بـ«روميل» فما ظهر الخبز وما تقدم روميل، وقد تسألون: أثمة علاقة بين الخبز وروميل؟، فأقول: كالعلاقة بين عم الطاهر عبدالله وعبدالفتاح يحيى باشا، هى الحرب سادتى، تختل فيها الأوضاع وتنعكس الطباع، كما قال شيخنا الجبرتى. نحن كنا نحلم، دفعنا أهلونا إلى الكتاتيب لعلنا نفلح فنسند ظهورهم التى أحنتها الحرب، نرتدى البنطلون والـ«زاكتة»، ونضع على رؤوسنا طربوشاً يقينا ضربة الشمس، ونتقاضى آخر الشهر مرتباً ثابتاً.
كنا نحلم بخبز المدينة الطرى وبالطعمية والحلاوة الطحينية، وفى الذاكرة صور للسياط التى تكوى الظهر والنساء اللواتى متن قهراً وجوعاً، والجدة التى تروى الأساطير، والراوية الذى يغنى على الربابة، وحين زحفنا من القرى الشقوق إلى المدن الكبيرة لم تمنعنا عساكر الهجانة، جئنا فى الدرجة الثالثة لأنه لا توجد درجة رابعة بالقطار، على ظهورنا قفف البتاو وزلع المش والأرز المعمر بلا شىء، تسربنا فى الغرف السطوحية فى الحارات الخلفية، نقرأ كتباً مدرسية وكتباً صفراء، وكتباً بيروتية، والدنيا قد تغيرت. نحن فى واقع الأمر عينة صالحة لدراسة أثر القهر على الأدب والفن والمهم على الإنسان، فنحن كنا مطاردين من الداخل، بأحلام أهلنا أن نصبح أفندية، بذكريات الوباء والهزيمة، بكتب قرأناها، برفاق حلمنا بهم، بعجز يمنعنا أن نكون من الشعب حقاً، مطاردين من الخارج بالمخبرين وأصحاب العمارات ورؤساء تحرير الصحف ومقالات هيكل وسياط ضباط المباحث فى معتقل القلعة، وحلقتنا المسكينة التى لم تزد عنا نحن، ولم تمنحنا الإحساس بأننا رفضنا ما يجرى، وعجزت أو عجزنا نحن أن نمدها للشعب الذى نحلم به ونفكر فيه.
##نقاش_دوت_نت