الشدة المستنصرية ..أفنت نصف سكان مصر.

 


روى المؤرخون حوادث قاسية، فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع ما على مقابر أبائه من رخام وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه وخرجت النساء جياع صوب بغداد.

وذكر ابن إلياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب؛ لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها.

وفني نصف سكان مصر

ويذكر أن الخليفة المستنصر قد امتدت فترة حكمه للستين عاما. ويذكر أن الحسن بن الهيثم قد زار مصر في عصر الدولة الفاطمية وأشار عليهم ببناء سد عالي على النيل إلا أن مشروعه رفض من الخلافة فكانت النتيجة ما حدث من شدة وظلت الفكرة حتى كتب لها التنفيذ في ستينات القرن العشرين ببناء السد العالي الذي وقى مصر خطر السنين العجاف التي غالبا ما كانت تستمر بالسبع سنين ويذكر أن محمد علي بعد خروج الحملة الفرنسية كانت مصر أمامه ليحكمها منذ 1803م إلا أنه رفض الولاية ومنسوب الفيضان منخفض ولم يقبل إلا بعد انتهاء الأزمة التي حسبت على خورشيد باشا الوالي العثماني.

نعود للشدة المستنصرية وما جاء بكتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء تأييدا لما سبق نسوق ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية الماء دينارا وبيع دار ثمنها تسعمائة الف دينار بتسعين دينارا اشترى بها دون تليس دقيق وعمّ مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف والطرق في النداء: خراج! خراج! فبلغ أربعة عشر درهما وبيع أردب قمح بثمانين ديناراً. ثم عدم ذلك كله، وأكلت الكلاب والقطط، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير.

والقط بثلاثه دنانير والجيفه بدينارين.

عموما لدي استغراب عجيب بهذا الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ..

صاحب الشدة المستنصرية التي فني بها ما يقرب من ثلث الي نصف شعب مصر ..

حكم المستنصر مصر ٦٠ عاما ..

نعم ..

أنت لم تخطيء القراءة ، حكم الخليفة المستنصر مصر ستة عقود كاملة ..

و لربما كان أحد أطول الحكام لمصر علي مدار تاريخها الطويل ..

و المدقق في حياة المستنصر ، الراغب في النفاذ الي حقيقة كيف وصلنا الي ذلك ، سيجد المقاربة التاريخية النافذة الي روح الشخصية المصرية متماهية حد التطابق ..

فالخليفة المستنصر لم يكن رجل شديد العبقرية ليحكم بلد مثل مصر ستة عقود و ينجو بحكمه من شدة قتلت نصف الشعب تقريبا دون أن تمسه هو و أسرته و تقصيهم عن سدة الحكم ..

كان المستنصر بالله رجل متوسط في كل شيء ..

شخصية متوسطة ..

و هي عشق الروح المصرية لسبب لا يدركه الا الله ..

يقول ستانلي لين بول في كتابه مصر في القرون الوسطي ، لا يفهم أحد كيف تحمل المصريون ، المستنصر حاكما ، حتي أكلوا بعضهم البعض و تركوه في سدة الحكم ، يقول ستانلي و الدهشة تصارعه فتصرعه ، انه لم يجد تفسيرا واحدا لذلك ، لا تفسير منطقي ، و لا حتي عجائبي غرائبي ..

فالرجل كان المسئول الاول عن الشدة التي حملت اسمه في كتب التاريخ ..

بل انه لم يفعل شيء حقيقي لايقافها ، و ظل طوال أعوام الموت و الخراب الطويلة يقف موقف المتفرج مثله مثل باقي الناس ..

و ظلت أمه حتي في أحلك ايام البلاد و أشدها سوادا تتأمر بالحكم و الملك و تحركه كما شائت كعرائس الماريونيت ..

و مع ذلك ظل المستنصر في الحكم ..

سيظل التاريخ يتذكر دوما أحد أغرب المشاهد في تاريخ البشر ، و هو أيضا يحمل خاتم المستنصر بالله و توقيعه الذي يحمل رائحة الموت و الفشل ..

أنه و عندما مات أهل الفسطاط و تعالت جثثهم في الشوارع ، لم يعد يطيب للخليفة المستنصر بالله ان يجلس في شرفة قصره المنيف في القاهرة ، و كانت مدينة القاهرة في تلك الايام و منذ ان اختطها جوهر الصقلي عاصمة جديدة لمصر و انتقل اليها الخليفة المعز لدين الله ، حرام علي عامة المصريين ، لأن قصورها و حدائقها و شوارعها كانت للفاطميين الحكام و خاصة المصريين فقط ..

عندما لم تعد نفسية المستنصر الحالمة تتحمل كل هذا الخراب ، و لم تعد عيناه الحاكمة تتقبل رؤية كل ذلك الموت ، ضج بالشكوي لوزرائه ، و امتنع عن الخروج لشرفته ، فقرروا ان يبنوا سورا مهولا يحجب عنه مأقيه السلطانية كل هذا الخراب ..

ارتفع الجدار الساحق الذي توقف امامه بدر الجمالي يوما مندهشا مستنكرا عندما جاء من بلاد الشام منقذا بلد مات حد التفسخ ، ارتفع السور يحجب موت العاصمة القديمة بأهلها المنحوسين عن العاصمة الجديدة و عين المستنصر الحزينتين ..

و العجيب ان المستنصر اعجبه الحل ، و راقه ، و عاد لجلسته ينظر للأفق بعين حالمة وديعة بعد ان زال عنه عذاب الفسطاط و أهلها ..

و عبر ستة عقود ، لم يفعل المستنصر بالله بالمصريين اي شيء يستنقذهم من العذاب هذا الا بقدوم بدر الجمالي ..

يتسائل ستانلي لين بول ، و يتسائل كل مؤرخين العالم ، و اتسائل أنا..

كيف حدث ذلك ..

كيف بقي هذا الرجل في الحكم ستة عقود حتي انه حقا و صدقا و بلا اي مبالغة أعد الناس الافخاخ لجيرانهم و أكلوا لحومهم ، بينما بقي المستنصر و سلالته يحكمون ..

و لا أجد إجابة ..

هذا شيء يتخطي نهج الحكايات ..

و يسحق حتي ، ديدن الأساطير ..

#نقاش_دوت_نت