كنا قد قسمنا عهد مبارك لمراحل، فلم يكن مرحلة واحدة، والمرحلة الأولى، وهي عصره الذهبي بدأت منذ توليه الحكم حتى عام 1990، أي الولاية الأولى وجزء من ولايته الثانية، إذا بدأت المرحلة الثانية على هذا النحو.
1ـ هذه المرحلة هي التي مرحلة الحكم المباشر لمبارك، حيث فقد كثير من أذرعه السياسية، وما بقي على قيد الحياة هي أذرع وظيفية مثل يوسف والي وكمال الشاذلي، حيث فقد في مرحلة مبكرة فؤاد محيي الدين واكتملت المرحلة الأولى باغتيال رفعت المحجوب.
2ـ في هذه المرحلة جرى اختطافه بالكامل من قبل زكريا عزمي، وتغييبه عن مجاله الحيوي في التواصل مع الناس، واشباع رغبته بالأحاديث الطويلة التي لا تخلو من النميمة، مع مخاطبة صفة أخرى فيه وهي الرغبة في تكبير الدماغ، إنه كما عبر عن نفسه عندما قال مقاطعا الدكتور حسن حنفي: تستطيع أن تدخل التاريخ إن.... (أنا لا عاوز أدخل تاريخ ولا جغرافيا.. هو هكذا بالضبط)
3- فقدت الحياة السياسية حيويتها، بمقاطعة المعارضة للانتخابات، وبرحيل رفعت المحجوب، وبعزل وزير الداخلية المثير للجدل زكي بدر، والذي كان مادة مهمة لصحف المعارضة، والتي فقدت ركنا مهما من أركانها تمثل في رئيس تحرير الوفد مصطفى شردي، وجاء من بعده من لم يكن في مواهبه، فهرول في اتجاه مبنى ماسبيرو، وقبول الهبة التي تمثلت في برنامج تلفزيوني، وهذا ليس الوفد، وعموما البرنامج تم وقفه بعد ذلك بقرار من وزير الإعلام صفوت الشريف، والذي قال إن السبب هو فشل البرنامج. ولكن كان ذلك لأن رئيس التحرير أراد أن يقوم بدور معارض (وأبو بالين كداب) وعموما هي مرحلة لم تستمر وكان الوفد بعد ذلك على هوى مبارك فيما سمي بمعركة الصحف الصفراء!
4- اليسار خرج من المعادلة على كافة المستويات، فقد انهار بانهيار الاتحاد السوفيتي، وأمكن لرفعت السعيد أن يأمم خالد محيي الدين بالكلية ويسلم اليسار كله للسلطة بثمن بخس؛ مقعد له في مجلس الشورى بالتعيين ومقعد لخالد محيي الدين في مجلس الشعب بالتزوير.
5- وكان الباب الذي دخل منه الشيطان هو الإرهاب، الذي اشتد عوده في هذه المرحلة، وإثار الرعب في المشهد السياسي، ومن هنا برر رفعت السعيد لموقفه (وقد صارت له حراسة من الداخلية آخر منجهة)، وكان هناك خوف حقيقي على الدولة، كرس من سمات هذه المرحلة، ومكن لمبارك من الحكم المنفرد، وأسس لدولة الموظفين، هو الموظف الأعلى فيها.
6- ولأنهم موظفون فهم لا يناقشون رئيسهم في الشغل، وصار البرلمان منزوع الدسم، وفتحي سرور أداة وظيفية معتبرة، تستطيع أن تقرأه من هذه الحكاية، فقد كان النائب بالبرلمان وأحد الضباط الأحرار أبو الفضل الجيزاوي مشغولا بالإصلاح السياسي في حدوده الدنيا، وكان يطلب بتعديل الدستور لتكون انتخابات رئاسية متعددة فلا يليق أن تستمر مصر في سياسة الاستفتاء، وكان ممن تحدث معه في ذلك فتحي سرور، وطلب منه أن يبلغ الريس بذلك، فضرب سرور بيديه على صدره: وهو يقول: يالهوي، هل تعتقد أننا بناخد وندي معه في الكلام؟ نحن نتلقى منه التعليمات فقط.. وحاضر ونعم!
7- رويدا رويدا صار مبارك معزولا، ومن حوله دولة الموظفين، وبدأ الرضوخ لصندوق النقد الدولي، والبدء في بيع القطاع العام، الجريمة التي لا تغتفر، دعك من فيديوهات شائعة له هذه الأيام عند رفضه الاستجابة لمطالبه، فالحقيقة كان هذا في مرحلة سابقة، أيام أن كان من يدير البلد معه سياسيون لا موظفون، ولم تظهر الجريمة بشكل واضح وقتئذ لأن البيع تم في عهد رئيس حكومة من المدرسة الاشتراكية وتلميذ إسماعيل صبري عبد الله، وهو الدكتور عاطف صدقي!
8- عاطف صدقي دكتور، وعالم، وله وجهة نظر، لكنه على المستوى الشخصي رجل بركة، مثل جدك الحاج في البلد، وخذ هذه الحكاية لتقريب الصورة. فعندما استدعي للرئاسة، كان لديه تصور أن الرئيس سيعينه في مجلس الشورى، فكتب رأيه في وريقة وضعها في جيبه، وأخرجها أمام الرئيس..
ـ فيها ايه دي؟
مد اليه الورقة ليقرأها، لكن مبارك قال له أقراها انت
ـ قال متلعثما: الدستور يا أفندم يمنع الجمع بين رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات وعضوية مجلس الشورى.
وعلى عادة مبارك عندما يحقق لمن معه الصدمة والرعب.
ـ أنا جايبك رئيس وزارة تقولي مجلس الشورى!
9- وكبر هو الجمجمة، الحكومة في أيدي عاطف صدقي، ومجلس الشورى يديره يد رجل عفيف، شريف، مهذب، تجوز الصلاة خلفه، كنت قد قررت خوض الانتخابات ضده، وصحفي عجوز صديقه وصديق سليمان الحكيم الله يرحمه ويحمل لي تقديراً خاصاً تدخل كوسيط بأن كلم سليمان:
ـ ايه اللي بيعمله سليم عزوز ده. دا سليم لو تف في وجه مصطفى كمال حلمي يغرقه.. هو الرجل حِمله؟!.
ـ ما هو علشان لجنة الأحزاب (يرأسها مصطفى كمال حلمي) رفضت حزبه
ـ سليم نفسه يعرف أن هذا ليس قراره!
وموضوع الحزب هذا في حد ذاته، يكشف جانباً من شخصية الرجل للأجيال الجديدة التي لم تعاصره رحمه الله رحمة واسعة، فتعقد جلسة مناقشة لكل مشروع حزب جديد مع وكيل المؤسسين، وأنا كنت عقدت النية ألا تكون جلسة روتينية، انما سأقول فيها كلاما للتاريخ، وفي حضور كمال الشاذلي، وحبيب العادلي، وفاروق سيف النصر وزير العدل، إلى جانب الأعضاء من الشخصيات العامة.
فإذا برئيس الجلسة الدكتور مصطفى كمال حلمي يفتتحها بأن قال في شعراُ.. إنه من دواعي سرورنا أن تكون بيننا اليوم... إنه يسعدنا أن نستمتع لعرض مختصر لبرنامج الحزب من الكاتب الصحفي المرموق.. وتفضل حضرتك الكلمة يا افندم (أنا أفندم وحضرتك تبقى ايه؟) في هذه اللحظة التاريخية أحرجت احراجاً شديداً (وأنا من السهل احراجي دعك من الكفر الذي يعطيك شعورا أنني من مطاريد الجبل) وكنت في العرض كاتب ملمحا من برنامج الحزب هو إلغاء لجنة شؤون الأحزاب (والله، وكمان والله، استحيت أن أذكره.. يا للإحراج الشديد. أنا خرجت بعدها كتبت مقالاً عنوانه "في حضرة المصريين القدماء".. فاللجنة مشكلة من العواجيز، الشاب الوحيد فيهم هو حبيب العادلي!
10ـ تحولت البلد إلى ثلاجة كبيرة، الأحزاب الجديدة بيد هذا الرجل الكبارة (رئيس لجنة شؤون الأحزاب)، والصحف الجديدة أيضاً (رئيس المجلس الأعلى للصحافة)، ومجلس الشورى معه، والبرلمان بيد فتحي سرور، والحكومة بيد من لا يتخير عنه الدكتور عاطف صدقي، ومجلس الشعب بيد مغسله الدكتور فتحي سرور، وعند أي مناوشات فكمال الشاذلي موجود، وبعض الصخب من صحف المعارضة في حدود حملة على هذا الوزير أو ذاك، والدعوة لإلغاء قانون الطوارئ.
11ـ وتحولت السياسة الى ملف أمني، حق تقرير المصير فيها لأجهزة الأمن، وحتى الكنيسة صارت ملفاً أمنياً، وهذا ضد طبائع الأشياء، فدمر الأمن التجربة الحزبية، لأن إدارة السياسة ولو بهدف تأميمها يحتاج لساسة، والملف والذي نجح الأمن فيه هو هندسة الحالة الدينية، لكن الأحزاب ضعفت وفي المقابل صار الإخوان هم الرقم الوحيد في المعادلة.